فلسفة المال

هل عندنا مشكلة حقيقية في النظرة للمال وفلسفته ومنطلقاته وأهدافه؟، قد حدث عندي نوع إشكال قديم في الجواب عن هذا السؤال، وفي فهم بعض المعاني الشرعية فيما يخص المال وفلسفته والتعامل معه، يقول ﷺ: "أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه"، ويقول: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا "، لكني أجد أبا بكر وعثمان وابن عوف رضي الله عنهم، وآخرين من كبار الصحابة لا يقفون عند الكفاية بل كان عثمان وابن عوف من مليارديرية الصحابة كما نعبر الآن !!.

هل ندرك ما معنى أن يجهز عثمان نصف جيش العسرة ويوقف بئر رومة للمسلمين ؟!، معنى ذلك أنه تكفل بنصف ميزانية وزارة الدفاع وسقاية مواطني الدولة"المدينة" آنذاك !.

بعد تأمل في الموضوع لا أجد إلا أن المال كان يمثل لأثرياء الصحابة مشروعا لتقوية الأمة، ولا ينظر إليه باعتباره صادا له عن العبادة، أو ملهيا عن حقوق الله أو لشهوة جمع المال أو مخرجا له من دائرة الزهد.

ابتداء لسنا نتحدث عمن يشملهم قول النبي ﷺ: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة ..."، فهؤلاء في دائرة الذم المتفق عليه.

إن السياسة العالمية الآن يحركها المال العالمي، وما السياسة إلا وسيلة لتسهيل حركة المال، بل أصبح المال في العالم المعاصر يصنع السياسة وهي أداة من أدواته، وما التبعية الإقتصادية والمالية التي تعيشها دولنا إلا مظهر من مظاهر هذه المشكلة، وهو ما كان يعبر عنه قديما أن الدول تقوم بالمال والرجال وتسقط بفقدانهما أو بفقدان أحدهما.

نعم كان يمثل جمع المال للسلف الصالح مشروعا بحد ذاته، فقد ترك جملة من الصحابة مالا كثيرا بعد وفاتهم، وهذا الليث بن سعد من أثرياء السلف وكان ينفق على تلاميذه من طلبة العلم، وهذا ابن المبارك كان من التجار الاثرياء ويقول لتلاميذه: "لولاكم لما اتجرت"، ويقول سفيان الثوري: "المال سلاح المؤمن في هذا الزمان".

لقد كان هذا المال سببا في استقلالية العلماء في الموقف والحركة والافتاء، وقد لخصوا لنا فلسفة المال والنظر إليه حين قالوا: "اجعل المال في يدك لا في قلبك"، فليست العبرة بكثرة المال وقلته تربويا وإيمانيا، فرب فقير امتلأ قلبه بالسخط والحسد، ورب ثري امتلأ قلبه زهدا ورضا وقناعة !!!.

إن المال في الإسلام أداة من أدوات الخلافة في الأرض: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه"، كما انه مال الله وليس مال العبد: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم"، وهو جزء من الإعداد وحماية الأمة: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، "انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله"، وكلما كثر مال الله عند العبد الصالح كثرت المصالح المقضية فيه للمسلمين.

يتلهف المسلم للحصول على وظيفة مهما كانت ممتهنة في مؤسسة يقول هو عنها إنها للأعداء ثم يلعن صاحب المؤسسة لأنه يدعم أعداء المسلمين، بل لا نجد هذا الموظف يفكر أن يمتلك أو يدير مثل هذه المؤسسة ما دامت حققت له الوظيفة فيها الستر والكفاية، ومن الغريب أن كثيرا من أصحاب المشاريع الخيرية والدعوية التي ينتفع منها ما شاء الله من الناس، يقفون على أبواب المحسنين إلى حد التذلل أحيانا لدعم هذه المشاريع، لكنه لا يفكر في دعم أو وقف أو صناعة عثمان أو ابن عوف جديد!.

تبتدأ الحكاية من التركيز المستمر في نفوس المتدينين وأهل الصلاح على تقبيح المال والتحذير منه بدوافع وعظية غير ناضجة، مثل ترديد قوله تعالى دائما "إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، نعم هو فتنة لكن ليس المطلوب عدم استحصاله، بل التحذير من استحصاله بالحرام، وعدم أداء حقوقه، والقرآن كان يكرر دائما على بذل المال والنفس، بل كان يقدم الأموال على الأنفس في كل الآيات عدا آية واحدة، فكيف ينفق من ليس عنده مال، أو ليس عنده ما يكفيه أو حتى من عنده حد الكفاية ؟!.

إن الكفاية الممدوحة في الحديث هي الكفاية التي تحصن المسلم من التحسر على رزقه، أو انشغال القلب بما فوق الكفاية، أو قضاء كل الأوقات في الاستكثار والجمع وشهوة المال التي لا تشبع، ولا تعني بحال من الأحوال أن لا يكون المسلم غنيا أو ميسورا، وكان النبي ﷺ يقول: "نعم المال الصالح للعبد الصالح"، ولم يرد ذم المال لذاته في نص شرعي بل لما اقترن به من الشح والبخل وجمعه من الحرام.

من الإشكالات في فهم النصوص الشرعية التعارض الظاهر بين كون النبي ﷺ كان يمر عليه الشهر والشهران ولا يوقد في بيته نار، ويضع الحجر من الجوع على بطنه، لكنه في الوقت نفسه كان يدخر قوت سنة!، والجواب هو أن هذه الأحاديث ما هي إلا تعبير عن أحوال مختلفة كان يمر بها ﷺ لا أن الفقر فضيلة بحد ذاته، والا كيف يدخر قوت سنة وكيف كان يستعيذ بالله دائما من الكفر والفقر؟، ولماذا يجعل الحال الأول هو الأصل وليس الحال الثاني؟، ولماذا يضرب المثل بفقراء الصحابة ولا يضرب المثل بأغنيائهم كعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم ؟.

إن الأصل عند المسلم هو الغنى والكفاية وليس الفقر والحاجة، واليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة كما في الحديث في صحيح مسلم، بل إن نظام الزكاة نفسه يقول: ينبغي أن لا يوجد في المجتمع المسلم فقير على الإطلاق، والسارق المحتاج لا تقطع يده شرعا.

من يا ترى الأفضل عند الله والأنفع لمجتمعه، مسلم عامل في مصنع يأخذ الكفاية أو دون الكفاية منه أو مسلم يملك هذا المصنع ليشغل فيه ألفا أو آلافا من المسلمين ؟!.

إن كسب المال ينبغي أن يكون مشروع إغناء أمة للمسلم، وليس شهوة جمع أو ترف قبيح، فالمال عند المسلم وسيلة للتقرب إلى الله وليس غاية بحد ذاته: "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا"، فهذا الكلام قيل لقارون فلم يعب عليه جمع المال: "وآتيناه من الكنوز"، فالله هو من آتاه هذا المال، بل عاب عليه الشح بهذا المال ومنعه واعتباره هدفا لا وسيلة، فأنت مخير بين أن تكون قارونيا أو عثمانيا.

يقول البعض: نبقى نحذر من فتنة المال حتى لا ينساق المسلم خلفه ويلهيه عن واجباته، بل ويوقعه في حب الدنيا أو الكسب الحرام، وأقول: لقد خطت الشريعة خطا لا يستطيع مجاوزته، وضابطا لا يتخطاه، فقال تعالى: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم"، وقال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله"، وضرب لنا مثلا بقارون "فخسفنا به وبداره الأرض"، وقال عليه الصلاة والسلام: " ما نبت من سحت فالنار أولى به".

إن هذه الحدود والضوابط تجعلنا نطمئن أن المسلم لن ينحرف في هذا الباب، فكل كسب حرام أو يلهي عن العبادة أو فعل واجب فهو كسب مذموم.

إن المسلم يمر بحال الفقر لكن عليه أن يسارع للخروج منه بالعمل الجاد الدؤوب، والكسب الحلال ولا يعيش عالة على غيره ما استطاع، فإن كتب الله عليه الفقر لأسباب قدرية قهرية، فعليه الصبر آنذاك واحتساب ذلك عند الله، وليس أقبح من فعل مسلم يعيش على المعونة وهو قادر على الكسب.

إن هناك مشكلة حقيقية عند شبابنا وهم يقفون في طابور الانتظار لسنوات طويلة حتى تتحنن عليهم الدولة لتعطيهم وظيفة بملاليم، وهم يملكون من القدرات ما يؤهلهم لتأسيس شركات ومصانع صغيرة، فقط لو يتنازلون عن حلم المكاتب والكراسي، بل إن الوظيفة الآن أصبحت نوعا من أنواع الرق والعبودية والفقر، لأن حياته مرتهنة للراتب الذي يعطيه من فوقه من دولة أو مؤسسة.

هل نتحدث عن الجميع؟ أقول: نعم، لكن لكل حالة خصوصياتها، وهل يعني كل ما قلناه أن لا نرضى بالكفاية ولا نبقى في وظيفة؟ أقول: ليس هذا هو المقصود بل المقصود هو الآتي:

1_ من لم تكن عنده وظيفة فليبادر بمشروع مهما صغر ولا يظل عاطلا.

2_ ومن كانت عنده وظيفة لكنها تقتل طاقاته وقدراته في تنمية نفسه ماليا فليبادر بتركها بعد دراسة الموضوع.

3 _ ومن كان موظفا فعليه أن يتعلم مهارة أو صنعة لأن الوظائف لا تدوم.

4 _ ومن وجد في نفسه القدرة والموهبة من أبناء المسلمين أن يكون رجل أعمال، ويعرف دروب كسب المال والثراء فليسلكه، وليعتبر ذلك مشروع تقوية أمة، من خلال ما سيحققه من خلال ماله من مصالح للمسلمين.

5 _ ومن كان عنده مال فوق الكفاية أصلا، وقد أغناه الله تعالى، فليجعل ماله الفائض مشروعا استثماريا تنتفع به الأمة وحسب الأولويات.

إن وجود المسلم بين ضجيج مصنعه ودكانه لا يقل عن وجوده في مسجده ومحرابه، فالحياة كلها مسرح للعبادة إذا ما اتقى الله ونوى الخير.

وسوم: العدد 820