إنها الشَّام
إلى ذيَّاكَ الرَّابِضِ الشَّامخِ والباذخِ الأَشَمِّ ،مـن تَعَـانَقَتْ رُوحي مـع روحـه، والتقـى عِشْقِي مع عِشْقِه ،وتروَّتْ عُرُوقي مـن سُفُـوحه، فَسَكَنَ وبَعُدْت، وجَاوَرَ وَتَغَرَّبتْ........
إلى الماردِ الذي التصقَ بها، وأحاطَ بها إِحَاطَةَ السِّوَار بالمِعْصَم كـأنـَّهُ الحارسُ الأمينُ لها ليحميَها مـن نـوائب الـدهـر، ويقيَها من صُـرُوفِ الـزَّمـانِ لسانُ حاله يقول :
طِيــبي يا دِمَشْـقُ، وتَكَحَّلي يا شـام، وقَرِّي عَيْنَاً ببردى وبُرُودِ السِّــحْرِ والجمــالِ في الغوطةِ الخضراء أَهْواهـا...أجـل ..وكيـف لا أُحِبُّها وأَهْواها؟!
وهـي عَـزْفُ رُوحي ، ووجيــبُ قلبـي ، ونبــضُ فـؤادي لأتذكر ماقلته فيها قبل:
أجل إنها الشَّام أهواها وتمتزجُ بها روحي كيف لا ؟!
وبهــا وِلــِدْتُ وعـلـى مِسْـــكِ تـُرابِـها نشَــأْتُ وَتَرَعْـرَعْـتُ، ومـن خيـراتها رَضَعْـتُ وما فُطِمْتُ.
إنَّهـا الشَّـامُ شامةُ البلـدان على خَـدِّ الزَّمان .
من بَسَطَ لها الجَمَالُ جَنَاحَيْه، وأهداها غُوطَتَيْه، فتزينت بأجملِ القلائد، واكتست أبهى الحُلَلِ.
كتبتُ لَهَا وسَكَبْتُ *مَدَامِعَ الـعَاشِقيـنَ* من أجلـهــا حُـــبـَّــــاً
وعِشْــتُ فيها وسَـطَّرْتُ *مُهْجَـــةَ الأحــــرارِ* لها نـَـبــْـضَــاً
وَعَزَفْتُ بأوتارِ الحنــيـنِ* أُغْنِــــيـَـةَ الــهَـوَى *لـَـهـَـا عـِـشْــــقَـاً
-2-
أَهْدَيْتُ لها مَشَاعري وسَكَبْتُها على قراطيسِ الودِّ أَدَبَاً
وعَصَرْتُ لها مُهْجَتي فَتَكَثَّفَتْ بأروقةِ البيـــانِ سُحُبَاً
حتَّى كادَ القلبُ ينـفطرُ من فَرْطِ الجَوَى فناشدتُهَ ونقشتُ على جدرانه
أن * يافؤادُ تَرَفُّقَاً *بي وبحالي وَحَنَانَيْكِ حَنَانَيْكِ ياشامُ فالقلبُ مُلْكُ يَدَيْكِ
والرُّوحُ طارتْ إليك.
الله الله ياشامُ..ماأبهاكِ ......وماأحلاكِ ......وماأغلاكِ......
ياموئل الإيمان..... وياشامة العواصم..... ودُرَّةَ البلدان .
وماذا أقول بعد؟؟ وقد فاحَ طِيبُها أريجاً ،ورَشَحَ تُرَابُها مِسْكَاً
وتزيَّنَتْ بأطواقِ اليَاسَمين،وازدانتْ بعقودِ الفُلِّ،وترصَّعتْ بأكاليل الزَّنْبَقِ والغارِ ليلَ نَهار
فكتبت لها قصيدتي "فالأحاديث زنبقُ" لأتعطَّرَ بذكرها حيث أكون.
بماذا أصفُها؟!وماذا أتحدَّثُ عنها؟؟! وهي غَنِيَّة ٌ عن بياني وسُطُوري
وماذا أقولُ فيهــا؟؟ !وهي بَهِيَّةٌ في غِيَابي وحُضُوري.
هي أرضُ الحضارات ،أقدمُ العواصم التي عرفتها البشرية ،ومنها كان اختراعُ الكتابة، ولها فضلُ السبق فيه ،وهي مهدُ الرِّسالات ، وفيها أُسْرِجَتْ مصابيحُ النُّورِ والهِدَايَةِ للبشرية.
وماذا أضيفُ؟؟! وعلى أرضها سُطّرت أروعُ الملاحِمِ والبُطُولات وعلى مَسَامِعِها تُتْلى أناشيدُ العزِّ والفَخَارِ ليـــلَ نَهَار.
-3-
كانت عاصمةَ الدُّنيا والدِّين، ومنها كانت تُسيَّرُ الفتوحات
أرضٌ باركهااللهُ سُبْحانه من عليائه هكذا أخبرناالحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله: {بارك الله في شامنا ويمننا}أخرجه البخاري
فتباركت الشَّامُ أرضاً، واعتدلت جَوَّاً، وصَفَتْ هواءً ،وطابَتْ ماءً
ليحطَّ الجَمَالُ فيها رِكَابَه، ولِيَضَعَ الحُسْنُ فيها إِهَابَه
لذلك أضحت الشَّامُ مهوى قلوبِ الهُـداة الأبرار،وتكحَّلت برؤيتها عيــونُ المؤمنين الأطهــار
وصارت غوطتُــها قلعةَ الأُبــــَــــــاة الأحرار.
ذكرياتي معها لاتنتهي على سُفُوح قَاسَيونَ وذُرَاه ،وحكاياتي بجوار بَـــــرَدَى والرَّبوة لا أمل ُّ
من ذِكْرِهاوالتغَنّي بها،وقصصي بين أحضان غوطتَيْهَاأحلامُ يقظةٍ أعيشها ين الفَيْنَةِ والفَيْنَة
لأقتاتَ عليها في غُرْبتي ،وارتباطي بِنَسْرِ شُمُوخِهــا في مسجد بني أُمَيَّةَ الكبير لم تَفُتَّ في عَضُدِهِ الأيام مُذْ كُنْتُ يافعاً ،أشْخَصُ بِبَصَري إلى تِلْكَ القُبَّةُ السَّامِقَةُ فيه لأتذكَّرَ سالفَ الأمجادِ التي سطَّروها،وماكتبوه من أسْفَار الخُلُودِ والعِزَّةِ عنها
هناك كانت لي ذكرياتٌ وذكريات................
أجل ذكرياتي فيها ومعها وبها لاتنتهي ،ولن تنتهي ماحييت .
-4-
هذا الدِّيوان الذي يسبرُ رسَمهَا في نفسي، ويصفُ طيفَها في حِسِّي ،ويطبع صورتَهَا على طِرسي ، أُهْديه لها بعد ثلاثة عقودٍ في الغربة،وأنا أركب سُفُنَ الشَّوْقِ ،مُبحراً بأشرعةِ المحبَّةِ ،لعلِّي ولعلِّي أصل إلى بَرِّ أمانها، وأعود إلى حِضْنِ أُمُومتها .
فلا تَسَلْني أينَ أنا الآن؟؟ولماذا أنت بعيدٌ عنها ؟؟ولا تسلني عن عُنواني في غُربتي؟؟؟
لأن جِلَّقَ ستبقى عنواني، وستظلُّ رسمَ ذاكرتي لأتذكَّرَ ماقُلته فيهامتخيِّلاً وقوفي على ذؤابة جبلها الأَشَمِّ قاسيون:
أجل ستبقى جِلَّقُ عُنْواني، وستظلُّ رَسْمَ ذَاكِرَتي،وستبقى طفولةَ أَمْسِي ويَوْمِي وَغَدِي
وإن قضيتُ بعيداً عنها.
فهذا الدِّيوان هو لها، ولكلِّ حُرٍّ أَبيٍّ أَحَبَّها ،ولكل من يعشــقُ الكَرَامـَةَ،ويتَعَشَّــقُ المَكْرُمَات لأنها ستظلُّ عنوانَ الكرامةِ ،وستبقى رمزَ المَكْرُمَات.
أَجَل هُوَ لهََا ،ولِكُلِّ من يتنفَّـسُ المـروءةَ والشَّـهَـامَـةَ حيث يمتزجُ مع هوائها،ولكلِّ من ينبـضُ قلبـُهُ بالأصالةِ والإِباءِ مُتجاوباً مع جبلها الأشَمِّ ،لأهمس في أذنها في الختام أشواقَ روحي وأبثُّها نجوايَ في غُربتي ،وأزيدها مَهْرَاً لو أسطيعهُ بِدَمِي لأقول:
-5-
وأَسْكُبُ مِنْ وَجيبِ القَلْــــــبِ مـايَحْلــو لهـا طَرَبـَـــا
وسوم: العدد 820