الخطأ القاتل لحسن الترابي
لا شك في أن حسن الترابي قد فارق الحياة وفي داخله انقباض شديد، فهو رغم عبقريته الفكرية وحتى السياسية، أدرك متأخرا وقبل موته بسنوات ضخامة الخطأ الجسيم الذي ارتكبه في حق نفسه وحزبه وشعبه عندما اختار المشير عمر البشير - من دون غيره من القادة العسكريين - ليقوم بانقلاب على حكومة الصادق المهدي المنتخب بصفة ديمقراطية.
لقد أحسن الظن فيه بحجة كونه مواظب على الصلاة في وقتها، والتزامه بقراءة الأوراد في كل صباح، لكن ما لم يتوقعه الترابي أن هذا المشير "الورع" سيطمع في الحكم، وسيرفض العودة إلى الثكنات، وسيسرق منه حزبه، ويحرض عليه أبناءه الذين كونهم ومكنهم من السلطة، وأخيرا سينقلب عليه ويضعه بعد ذلك تحت الإقامة الجبرية.
والأخطر من كل ذلك أن الشعب السوداني سيبقى يعاني من استبداد هذا المغرور صاحب العصا طيلة أكثر من ثلاثين عاما، بعد أن أصبح عميد الحكام العرب من حيث بقائه في السلطة.
أذكر أني زرت الترابي في بيته عندما كان ممنوعا من مغادرته، ولا أدري كيف سمحوا لي بتلك الزيارة، وإن كان بعض المسؤولين يومها يعرفوني شخصيا عندما كانوا من أنصار الترابي، ويعلمون بالصداقة التي تجمع بيننا.
وجدته يومها متعبا صحيا، وتخيم عليه سحابة من قلق، لكنه بقي مبتسما، وينظر بعيون تبرق بالذكاء والفطنة والدهاء. لم يحدثني عن البشير، لكنه كان واثقا بأن هذه التجربة لن تستمر طويلا، واعتبر أن نتائج التضحية بالحرية كارثية على أكثر من صعيد، وأن الدين والتدين لا يفرضان على الشعوب.
كان استنتاجا متأخرا كثيرا، ولا شك في أن الإسلاميين الذين بقوا معه إلى آخر لحظة قد شاركوا بفعالية في انتفاضة الشعب الأخيرة في محاولة منهم للتخلص من تركة ثقيلة كانوا هم جزء منها.
هل يكون ما حدث في السودان آخر درس للإسلاميين حتى يمتنعون في المستقبل من وضع أيديهم في أيدي العسكر، وأن يراهنوا فقط على شعوبهم التي تبقى هي مصدر الشرعية وبناء الثقة الدائمة. فالعسكري الذي يستجيب لدعوتك، ويوهمك بكونه سيحميك ويسند ظهرك ويبلغ دعوتك، ويظهر لك الولاء والانضباط والطاعة والتقوى، ويتبنى أطروحاتك وشعاراتك، لا يستبعد أن يكشف لك وجهه الآخر عندما تتاح الفرص، ويطيب له البقاء على رأس الدولة، ويشعر بأنك تستعمله لصالحك وأنه مجرد أداة بين يديك، يستفيد من أخطائك ويحملك وزر أخطائه أيضا، ليلقي بك في الأخير بين خصومك، ويؤلّب عليك جماهيرك ليلغي وجودك تماما، ويصبح هو صاحب القول الفصل في شؤون البلاد والعباد.
ما حدث مع الترابي سبق وأن أقد عليه آخرون في السودان وفي غيرها من الدول. فالتاريخ يشهد بأن الحزب الشيوعي السوداني عاش تجربة تكاد تكون مماثلة لكنها كانت أكثر سوء ومأساوية.
إذ بتشجيع من الحزب الشيوعي السوفياتي قام الشيوعيون السودانيون بالتحالف مع النميري بحجة " اختياراته التقدمية "، وبعد ذلك قرروا الإطاحة به بإقدامهم على انقلاب عسكري قاموا به يوم 19 تموز/ يوليو 1971 ، لكنهم أخطأوا التقدير مرة ثانية، حيث نجح النميري في استعادة الحكم عبر انقلاب مضاد بفضل الدعم الذي تلقاه من مصر وليبيا، وهكذا تعرض الشيوعيين لمذبحة حيث قتل المئات منهم في الشوارع، وتم إعدام أحد زعمائهم الكبار عبد الخالق محجوب.
ومن اللافت للنظر أن حكومات الكتلة الشرقية الستالينية قد انتقدت "اندفاع وتهور" الحزب الشيوعي السوداني وحمّلته مسئولية ما حدث له بعد ذلك على يد النميري، وانتقدت "عصبويته وعدم فهمه لإمكانيات نميري الثورية".
اللعب مع المؤسسة العسكرية مثل اللعب مع ملك الموت، لأن إدخاله في المجال السياسي قد يكون مفيدا في البداية لتغليب حزب على خصومه، هو بمثابة وضع الأرجل على أرض مهيأة للانزلاق والسقوط. فالحكم العسكري مضاد للتعددية، ومناهض للحريات وحقوق الإنسان.
وكل الذين سعوا إلى تحويل الجيش إلى قوة ديمقراطية تؤمن بحق الشعوب في تقرير المصير وضبط السياسات والتمتع بالحد الأدنى بالحرية، انتهت محاولاتهم بالفشل الذريع، وكانوا هم من بين ضحاياه. والشواهد على ذلك كثيرة في المنطقة العربية.
لهذا السبب يعتبر إصرار الشعب السوداني على رفض البيان الذي أصدره ما سمي بالمجلس العسكري هو تعبير عن استفاقة تاريخية من شأنها إذا استمرت وصمد أصحابها خلال الأيام والأسابيع القادمة فإنها ستكون نتائجها جد هامة ومثمرة في المستقبل القريب والبعيد، فالذي حصل في أعقاب الإطاحة بالبشير هو مجرد انقلاب كلاسيكي "إعلان حالة الطوارئ الذي يعني منع حريات التعبير والتظاهر والاحتجاج، إلى جانب مرحلة انتقالية يقودها الجيش لمدة سنتين"، أي تصفية نتائج الحراك الثوري، وتحويله إلى مجرد ذكريات جميلة، إنه انقلاب على انقلاب، وما الثورة إلا وقود لتحقيق استمرارية النظام الاستبدادي، وليس مستبعدا أن يكون البشير بعد أن ضاقت به السبل، أن يكون هو وراء الحركة الأخيرة التي أقدمت عليها قيادة الجيش لتوفر له فرصة الفرار من القتل أو المحاكمة.
التخلص من البشير خطوة هامة، ولكن بناء نظام ديمقراطي يقتضي منع الجيش من افتكاك السلطة وإعادة المأساة بوجوه جديدة، فالقطع مع المرحلة السابقة برموزها وسياساتها هو الطريق الوحيد لبناء سودان جديد. صلاح الدين الجورشي
وسوم: العدد 820