مرجعية الإنجازات في دولة الخلافة
إن وجود سلطة تقوم بتنظيم علاقات المجتمع ورعاية شؤونه هو أمر حتمي، وإلا سادت الفوضى، وتحولت الدولة إلى غابة. لكن ممارسة السلطة تتطلب نظام حكم يبين مصدر شرعية الحاكم وصلاحياته ودوره. فإذا كان نظام الحكم ملكيا تقليدياً مثلا، كان الملك هو مصدر السلطات، وباسمه تتم ممارسة الحكم، ويستمد كافة الوزراء والأمراء صلاحياتهم حينها من ولائهم للملك وخضوعهم لسياساته. وإذا كان نظام الحكم جمهورياً، فإن مصدر شرعية السلطة وممارستها هي إرادة الجماهير حصراً، فهم أصحاب السيادة في الدولة، سواء من حيث التشريع أو من حيث إنابة من يمثلهم في السلطة. أما في الدولة الإسلامية، فيستمد الخليفة صلاحياته وسلطاته من قبل أهل الحل والعقد الذين يبايعونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله، فيصبح وكيلاً عن الأمة في تحكيم الإسلام ورعاية مصالح الناس.
ويعتبر إقامة نظام حكم ينسجم مع عقيدة الأمة وثقافتها وهويتها وتطلعاتها أمراً ملحاً لبث روح الطمأنينة والاستقرار في المجتمع والدولة. من هنا كان لا بد من اعتماد المسلمين نظام الخلافة، لأنها مصدر شرعية الحاكم وسلطاته في الإسلام – وقد فصلنا شيئا من ذلك في مقال سابق [1]. إلا أنه رغم تسليمنا بشرعية الخلافة وصلاحيتها كنظام للحكم وتميزها عن غيرها من أنظمة الحكم، لكن إقامة هذا النموذج لا يعني بالضرورة تحقيق نجاحات حتمية، سواء على الصعيد الداخلي للدولة أو في العلاقات الخارجية مع الدول والشعوب الأخرى. بالتالي من الخطأ تصور اختفاء مشاكل المجتمع والدولة والأمة بمجرد إقامة الخلافة وعقد البيعة للخليفة. فإقامة الخلافة يعني معالجة موضوع السلطة وشرعية الحكم في الأمة. أما مواجهة التحديات وتحقيق الإنجازات في مختلف المجالات، ومعالجة مشاكل الأمة المتراكمة والمعقدة، يرجع إلى عدة عوامل، منها طبيعة نظام الحكم الإسلامي الذي يتطابق مع حاجات المجتمع لسلطة مركزية تربط الأمة بالدولة ضمن نسق يراعي متطلبات الأفراد كونهم أفراداً، وكونهم جزءاً من مكونات أوسع سواء العائلة أو القبيلة أو الأمة، ورعايتهم حسب متطلبات كل منها، إضافة لتمثيل نظام الخلافة الهوية الثقافية للأمة، ودورها في حماية بلاد المسلمين وفي حمل الدعوة للشعوب الأخرى، على اعتبار أن الإسلام هو رسالة السماء لأهل الأرض، لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولتحقيق العيش السليم المنسجم مع الفطرة البشرية.
إلا أن نجاح هذا النظام بالدرجة الأولى يرجع إلى كفاءة الذي يتقلد أمور الحكم فيها، سواء الخليفة أو معاونوه من رجالات الدولة الذين توسد لهم مهام قيادة الأمة وحمايتها ويناط بهم تطبيق الإسلام. وعليه ينبغي التثبت من كفاءة هؤلاء وأهليتهم لتحقيق الدور المنوط بهم. فالدول بحاجة إلى شخصيات فذة، ذات عقول راجحة تعي أحكام الشرع وتمتلك الخبرة والمهارة المطلوبة لاعتماد سياسات حكيمة في إدارة شؤون الدولة، واجتراح حلول عملية فاعلة -ممكنة التطبيق- للتعامل مع مختلف المشاكل والتحديات.
أما التعويل على إقامة الخلافة فقط، واعتبار أنها تنتج حلولاً سحرية للمشاكل المستعصية بشكل تلقائي حين إقامتها، فهذا مفهومٌ قاصر عن إدراك حقيقة الأشياء المرتبطة بسنن الحياة. فنواميس الكون وسنن الحياة هي نفسها قبل إقامة الخلافة وبعدها، لا تتغير ولا تتبدل، ويجب التماسها في كل عمل يبتغي تحقيق الإنجازات الحقيقية، سواء في إقامة الخلافة ابتداء وتقصد إيجادها في بيئة ومكان مناسبين، يساعدان في أداء مهماتها، أو في جعلها دولة مهابة الجانب عزيزة المكانة جاذبة ذات شأن بعد إقامتها. لذلك كان لا بد من التمييز بين دور الإسلام في تبيان شرعية نظام الحكم من جهة، وفي إبراز عظمة هذا النظام وصلاحيته، وبين ضرورة وجود رجال حكم مؤهلين لعلاج المشكلات ومواجهة التحديات وانتشال الأمة من مستنقع التخلف والتمزق والركود من جهة أخرى.
ولتبسيط الفكرة أكثر نقول، لقد شرع الإسلام أحكاما بين من خلالها الأوجه الشرعية لتنظيم العلاقات بين الناس، سواء في قضايا كلية -تشمل الأمة- كنظام الحكم، أو في قضايا جزئية – تشمل أفراداً - كبناء الأسرة، التي ضبط الإسلام مشروعيتها في إطار الزواج. لكن مجرد إجراء عقد النكاح بشكل شرعي صحيح لا يعني نجاح الزواج بشكل تلقائي. فالنجاح في العلاقة الزوجية يرجع لعدة عوامل تؤثر في بناء الأسرة وفي استقامة أوضاعها وفي تحقيقها الاستقرار والسكينة المطلوبتين، على نحو مدى نضج الزوج والزوجة، ومدى ملاءمتهما لبعضهما البعض، ومدى توفر إمكانيات مادية تسد احتياجات العائلة، إضافة إلى توفر بيئة اجتماعية صالحة تعزز ترابط أفراد العائلة ووجود سلطة تعالج المشاكل التي يمكن أن تطرأ على تلك العائلة بين الفينة والأخرى بحسب الأحكام الشرعية.
في هذا السياق، يلزم الإشارة إلى أن فشل الزوجين في تحقيق المراد من الزواج لا يعني الانقلاب عليه والتحلل منه والشروع في علاقات محرمة بين الرجل والمرأة وإنتاج ذرية خارج دائرة الزواج، إذ يعتبر ذلك علاقة باطلة، تفتت المجتمع، وتضرب مفهوم العائلة - أحد أهم ركائز تكوين المجتمع بشكل سليم. فالفشل في الزواج، يقتضي مراجعة العوامل التي أدت إلى فشله والعمل على تجاوزها لإنشاء عائلة بشكل صحيح ضمن الإطار الشرعي. ينطبق هذا المعيار أيضاً على نظام الحكم في الإسلام، إذ لا يصح إلغاء الخلافة أو استبدالها أو خلطها بنظم حكم أخرى، كأنظمة الحكم الديمقراطية، بسبب خلل في الممارسة أو إساءة في التطبيق، على نحو ما حصل في التاريخ الإسلامي في عدة مراحل من استبداد الحكام واستئثارهم بالسلطة وتحويل الخلافة إلى ملك جبري أو عضوض، فتم حصره وتوريثه في سلالات معينة، إنما يعني هذا دراسة العوامل التي أدت إلى الانحراف والفشل والعمل على تلافيها وتحصين الدولة منها.
خلاصة القول، إن الخلافة هي نظام الحكم في الإسلام الذي يمثل مجموعة الأحكام الشرعية المتعلقة بالسلطة. ويوضح هذا النظام شكل الحكم ودور الحاكم وأسباب شرعيته وصلاحياته وكيفية محاسبته ومتى يتم خلعه واستبداله. وتطبيق هذا النظام في الأمة الإسلامية واجب شرعي، وضرورة لمواءمته متطلبات المجتمع الإسلامي. أما تحقيق الإنجازات في الأمة والنجاح في ممارسة الحكم وإدارة شؤون الدولة فيتمثل بأهلية رجال الدولة وكياستهم "والمؤمن الكيِّسُ مَنْ عَرَفَ زَمَانَه واستَقامَت طَرِيقَتُه". لذلك لا يصلح تقليد شؤون الحكم كل من هب ودب، أو تقديم الأصحاب والأقرباء وأهل الثقة والطاعة العمياء على أهل الرأي وأصحاب الخبرة والدراية. فتقليد الضعيف والبليد والجبان والجاهل والعاجز والمتملق المناصب الحساسة، يضر بالدولة وقد يؤدي إلى انتكاستها وربما إلى انهيارها، حتى لو كانت تلك الدولة خلافة تحكم بالشرع. وعليه يجب أن تكون أليات تقليد الأمور في الدولة محكمة، حتى لا يتسرب للقيادة من ليس أهلاً لذلك. ويتوجب التدقيق في أحوال كافة المرشحين للمناصب الحساسة في الدولة، ابتداء بمنصب الخليفة ومستشاريه ومعاونيه وقادة الجند والولاة والأمراء وصولاً إلى مديري المحافظات ورؤساء البلديات.
1- نظام الحكم في الإسلام – أدباء الشام (https://bit.ly/2YRgkH0)
وسوم: العدد 821