ما استخف فرعون قومه إلا لفسوقهم
ما تكرر ذكر فرعون في كتاب الله عز وجل، وهو أتفه مخلوق عرفه التاريخ البشري لما اعتقد في نفسه الألوهية ،وهو يعلم يقينا أنه مجرد مخلوق ضعيف إلا لتنبيه البشرية بعده إلى النماذج الفرعونية التي ستتكرر عبر التاريخ إلى قيام الساعة . والفرعونية طغيان يتولد عن قوة السلطان ووفرة المال ، وإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ، فمن استغنى بشيء أطغاه ، وأكثر ما يطغي الإنسان استغناء بسلطان أو بمال أو بهما معا .
ودأب الطغاة الذين يطغيهم السلطان أو المال أوهما معا الاستخفاف بمن حولهم ، وغالبا ما يتخذون بطانة مهيأة لقبول هذا الاستخفاف . والاستخفاف عبارة عن احتقار واستهانة واستهزاء واستجهال المستخف بكسر الخاء بالمستخف بفتح الخاء. والاستخفاف مشتق من الخفة وهي نقيض الثقل أو الرزانة أو الرصانة ، والسين والتاء فيه للمبالغة .
والخفة زلة العقل ، ولما كانت قيمة الإنسان بثقل عقله أي برجاحته وهو كماله واتزانه وصوابه وكثرة علمه ، فإنه إذا خف عقله دل ذلك على طيشه ونزقه وهو اضطراب وانحراف في التفكير السديد والسلوك القويم .
ولقد أوشك قوم فرعون على الاقتناع بما جاء به نبي الله موسى عليه السلام من آيات ربه الكبرى كأدلة على ألوهية الله عز وجل داحضة ادعاء فرعون الألوهية كذبا ، وكادت عقولهم تستعيد رجاحتها بعد طول عهدها بالطيش والسفه إلا أن فرعون استخفهم، فأطاعوه معطلين عقولهم لأنهم كانوا فاسقين ، والفسوق إنما هو الخروج عن الجادة وعن الصواب ، والميل عن الحق إلى الباطل .
وفرعون هو نموذج الحاكم الطاغية المصر على الباطل لمواجهة الحق ، وقومه نموذج القوم الذين يستخفهم الطغاة ، فيتنكرون للحق ،وينحازون إلى الباطل مجاراة للطغاة في طغيانهم . وسيتكرر النموذجان ما بقيت الحياة فوق المعمور، ولن يخلو زمن من فراعنة يستخفون فساق أقوامهم .
وتتعدد أشكال استخفاف الحكام الطغاة لشعوبهم منها مخادعتهم بديمقراطيات زائفة من خلال انتخابات مزورة بأشكال صارخة ومثيرة للسخرية ، ومنها تمديد فترات الحكم إلى أقصى حدود لها حتى يحين موعد نهاية هؤلاء الطغاة بشكل أو بآخر.
وما وقع في مصر على سبيل المثال بعد ثورة ربيعها ،يعتبر فصلا من فصول تكرارالفرعونية حيث أجهز متزعم الانقلاب العسكري الدموي فيها على مكاسب تلك الثورة، وعلى رأسها مكسب تجربة ديمقراطية فتية غير مسبوقة خنقت في مهدها حتى لا تكون نموذجا يحتذى في باقي بلدان العالم العربي التي عشش فيها الاستبداد السياسي لعقود بعد فترات احتلال غربي بغيض .ولقد استخف فرعون مصر الحالي شعبه عن طريق مسرحية انتخابية هزلية ليضفي الشرعية المفقودة على اغتصابه للسلطة ، ولينصب نفسه حاكما مطلقا مستبدا . ولم يقف استخفافه بشعبه عند هذا الحد بل سعى إلى تمديد فترة استبداده أطول مدة ممكنة عن طريق مسرحية هزلية أخرى يستفتيهم فيها عن بقائه في السلطة والتي لا ينفك عنها حتى يلقى مصيرا كمصائر الطغاة . وإذا كان طغيانه لا يثير استغرابا ، فإن الغريب هو رضى الشعب المصري بأن يستخف به ،ولا يثور لكرامته المستهدفة خصوصا وأن شعوب عربية كما هو الشأن في السودان والجزائر خرجت للتعبير عن رفض الاستخفاف بها من طرف العسكر . فلماذا لا يحذو شعب مصر حذو شعبي السودان والجزائر ؟ ولماذا يطاوع الفرعون في مسرحيات الانتخابات والاستفتاءات الهزلية راضيا بالاستخفاف وهو الذي نربأ به أن يوصف بالفسوق ، علما بأن الموت نوعان : موت عزة وموت ذلة ، والميت حقا من مات ميتة الذلة ، أو الميت ميتة عزة فحي لا يموت.
وسوم: العدد 821