سورية بعد ثماني سنوات عجاف على الثورة

الآن، وبعد ثماني سنوات عجاف على الثورة فإن دم الشهداء يمنح جميع السوريين الفرصة الأخيرة للتمسك بأهداب هذه الثورة التي هي وحدها من سيمنح الشعب السوري الحرية والكرامة بعد نحو نصف قرن من العبودية والإذلال.

صحيح أن التغيير مؤلم ولكنه حتمي، والأفضل لكل السوريين أن يكونوا لاعبين فيه دون الانتظار من أحد أن يقدمه لنا لقاء ثمن قد يكون غالياً ومؤلماً، ففي الثورات لا حالة رمادية فإما مع أو ضد!!

ثماني سنوات مضت على الثورة السورية حار خلالها المحللون في تشخيصها وقد انطلقت من تراكمات سنين طويلة من الآلام والعذابات، ونهضت من حالة موات سريري بفعل الممارسات البوليسية والقمعية التي انتهجها النظام السادي، الذي أحكم قبضته على الإنسان السوري منذ ولادته وحتى موته مروراً بمسيرة حياته التي تعج بالكثير والكثير من المفارقات والعجائب التي قد لا يمكن للعقل البشري تصورها أو استيعابها أو تحليلها!!

سورية اليوم، كما يعتقد الكثيرون، تمر بمرحلة حساسة ومصيرية من تاريخها، فكل الأبواب مشرعة على كل الاحتمالات الرعيبة والمخيفة على ضوء تجاهل العالم.. كل العالم لكل ما جرى ويجري فيها، ونظرته القاصرة والمحدودة لقراءة الحالة التي تعيشها الثورة السورية منذ ثماني سنوات، هروباً منه إلى الأمام لعدم تحمل مسؤوليته الإنسانية والأخلاقية تجاه شعب يذبح من الوريد إلى الوريد بدم بارد.

لقد حار المحللون في تشخيص الحالة السورية حيث هناك على الساحة، حسب المنظور، خطان متوازيان لا لقاء بينهما يواصلان المسير بوتيرة متسارعة كل بحسب إمكاناته وطاقاته وصبره وجلده، كل منهما ينتظر من الآخر الاستسلام ورفع الراية البيضاء، وهما خط الثوار وخط النظام، وبالتالي فإنه لا يلوح في الأفق المنظور أن هذين الخطين قد وصل إلى أحدهما اليأس والإحباط للاستسلام للطرف الآخر والاعتراف بالهزيمة، ولكل منهما أسبابه الوجيهة والخاصة التي تدفعه إلى عدم الاستسلام للطرف الأخر.

فإذا أخذنا طرف النظام نجد فيه التماسك والإمكانيات والطاقات المتجددة بفعل الدعم غير المحدود من حلفاء يشاطرونه الخوف من المستقبل إذا ما خارت قوى هذا النظام واستسلم للطرف الآخر، فهزيمة النظام يعني بالنسبة إليهم تبخر حلم سعوا إليه وبذلوا من أجل تحقيقه الشيء الكثير من السياسة والمال والدعاية، ففي سقوط النظام ضياع مصالح الروس في المنطقة وسورية آخر معاقلهم التي ورثوها عن الاتحاد السوفييتي في مواجهة الغرب، وتبخُر حلم إيران الصفوية في رسم خارطة الهلال الشيعي الذي تريده من طهران حتى الضاحية الجنوبية مروراً ببغداد ودمشق، ليس من أجل وضع قدمها في مواجهة إسرائيل كما تدعي وتروج المحافل الصهيونية، بل في حماية حصن الدولة العبرية وتكريس وجودها، وقد تحقق لهم ذلك على يد حافظ الأسد ووريثه لأكثر من أربعين سنة، وهي تجربة تستحق من الصهاينة الشعور بالارتياح لوصول صفوي إيران إلى حدودها، لأن ما يخشونه هو وصول أمويّي الشام إلى تلك الحدود وقد غُيبوا عنها لأكثر من خمسين سنة عاشت خلالها الدولة العبرية في أمن وأمان لم تعشه على كل الجبهات الأخرى رغم ما أبرمته من معاهدات واتفاقات مع حكومات تلك الدول الملاصقة لكيانها المشؤم!!

يقول بعض المحللين أن النظام السوري غبي لا يعرف كيف يستفيد من كل الفرص التي أتيحت له عبر المبادرات العربية والدولية، لينجو من المحنة التي أوقع نفسه بها، وأنا أقول إن النظام لم يكن في أي يوم من الأيام غبياً في تعامله مع الشعب السوري لأن عقيدة هذا النظام تقوم في صلبها على قهر هذا الشعب وسرقة ماله ونهب ثرواته وقتله والتمثيل في جثث قتلاه والتلذذ في تعذيب جرحاه، وتغييب شبابه في السجون والأقبية والمعتقلات والمنافي والإخفاء القسري، وانتهاك الحرمات والمقدسات، وهذا ما فعله النظام على يد الأب في الماضي، ويفعله على يد الابن اليوم لثماني سنوات، وقد لا يختلف معي في هذا الرأي من يقرأ واقع هذا النظام قراءة جيدة منذ نشأته وخلال مسيرته حتى وصل إلى الوريث بشار الأسد ولكل السوريين تجارب مريرة معه، وهذا حال شريكه وحليفه النظام الصفوي، الذي يحمل نفس الاعتقاد ويتبع نفس الأسلوب تجاه مخالفيه من أصحاب الديانات والطوائف والمذاهب التي تخالفه، ما عدا اليهود الذين يحظون برعاية مميزة من رموز هذا النظام الصفوي الحاكم في طهران، والذى نجده يستميت في دعم هذا النظام ويقدم له المساعدات المادية والعسكرية واللوجستية والخبراء والمدربين والمقاتلين عبر جسر جوي وآخر بري برعاية معمميه وخدمه في بغداد ، وإن كان هناك من أغبياء بين حلفاء النظام فهم الروس الذين يغامرون بسمعتهم ومكانتهم الدولية، ومكاسبهم الاقتصادية التي يحققونها في العالم العربي والإسلامي، والتي تقدر بالمليارات عبر شبكة كبيرة من المشاريع الكبيرة والعملاقة التي يفوزون بها، وإضافة إلى كل ذلك عدم تقدير القائمين على الدبلوماسية الروسية للدول الإسلامية الملاصقة لحدودها أو تلك التي تعيش في داخل جغرافيتها، والتي ترى شعوبها ما يحل بإخوانهم المسلمين السوريين على يد حليف موسكو بشار الأسد، وهم الذين لم يبخلوا للحظة واحدة في بذل دمائهم أيام محنهم المريرة مع النظام الشيوعي المقبور، وبفعل الأسلحة الحديثة والمتطورة التي تزوده بها جهاراً نهاراً وعن سابق إصرار، عبر جسر جوي وبحري على مدار الساعة، وهي تشهد عبر أقمارها الصناعية ووسائل اتصالاتها المتطورة التي زرعتها في سورية والبحر المتوسط عمليات القتل الممنهج التي يقوم بها النظام السوري ضد شعبه، إلى أن تمادى الغباء الروسي وانخرط في قيادته للحرب القذرة ضد الشعب السوري والمشاركة في قتل مئات الآلاف وتدمير مئات المدن والبلدات والقرى، وتهجير ما يزيد على نصف الشعب السوري نزوحاً في الداخل وشتاتاً في الخارج، عبر آلته الحربية الجهنمية التي طورها في تجاربه على سورية الحجر والبشر والشجر.

الطرف الثاني، وهو جماهير الشعب السوري الثائرة التي لم تكل أو تمل في حشد الطاقات الممكنة والمتاحة للتصدي للنظام السادي المجرم وحلفائه البغاة والقتلة، رغم تفاوت ميزان القوى بين الطرفين وصدق حلفاء النظام معه، وتخاذل حلفاء الشعب السوري، والامتناع عن تزويد فصائله المسلحة ببعض الأسلحة التي تجاري ما يواجهه من عدوه من موت يصبه عليه من السماء والبحر والأرض. وأمام هذا المشهد الدرامي الرعيب بدأ الثوار بالتراجع والانحسار، فبعد أن كانوا يسيطرون على 80% من جغرافية سورية باتوا يتجمعون في أرض ضيقة تنال كل يوم الموت الزؤام على يد الروس والإيرانيين وبقايا ميليشيات النظام، وقد تآكل حلفاء الشعب السوري إلا من صديق واحد ربط مصيره بمصيره إنه الشعب التركي العظيم المضياف والمعطاء وقيادته الحكيمة التي تتحمل ما تنوء عن حمله الجبال الراسيات، من مؤامرات وحروب اقتصادية وتحريض ودسائس، ومع ذلك وكلت تركيا أمرها إلى الله وتوكلت عليه وقررت الذهاب مع القضية السورية حتى النهاية، ناهيك عن الأرض التي يتنازع عليها كل صعاليك البشر من عرب ومن عجم، ينتشرون من شرق البلاد إلى غربها طمعاً في قضم ما يستطيعون من الكعكة السورية.

وسوم: العدد 825