الأصنام تسكننا
الأصنام نوعان: محسوسة ملموسة كالأحجار والأشجار والأنهار والشمس والقمر والنجوم والكواكب والريح والمطر والبقر والأفاعي والقردة والفئران والأضرحة والمعابد وقد يكون الصنم عبارة عن بعض الأطعمة والحلوى تصنع أو بعض الثمار تقطف فتعبد ثم تؤكل، وهذا قمة الضلال والغباء وتغييب وتحييد العقل وتعطيله ، بل تعطيل حتى السمع والبصر والفؤاد ، فيكون الهبوط إلى أدنى مرتبة الحيوان والأنعام بل أضل من ذلك . يقول الحق سبحانه وتعالى في هذه الفئة [ ولقد درأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أوبئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ] ( سورة الأعراف آية 179 ) .
إن هذا النوع من الأصنام الذي ذكرناه ، يستمد قدسيته من ذاته فالإنسان يعتقد أن هذه الأصنام تعبد لكونها تحمل المقدس في ذاتها ولذاتها ، فهي والمقدس شيء واحد وقد وجد هذا النوع من الأصنام له مكانة في قلوب ونفوس الجاهليين لضعف إيمانهم بالغيب ولعدم قدرتهم على استيعابه وفهمه ولارتباطهم بالملموس ورفضهم للمجرد ولتعطيلهم أدوات المعرفة لديهم . ومن ثم فضلوا الأصنام وبجلوها وعظموها على الله - الذي هو بالنسبة لهم غيب لا تدركه الأبصار وكل دعوة بالإيمان به هي أسطورة وسحر لا تصدق ،لم يكتفوا بهذا بل جعلوا الأصنام التي يعبدون ، في مرتبة تعلوا على مرتبة الله ونسبوا لها كل صفة لا تنسب إلا لله وحده لا شريك له ، كالقدرة والخلق والرزق والنفع والضر ...وتلك هي عقيدة كل مشرك ، عابد للأصنام مقدس لها ، وذلك بحكم أميته وجهله وقلة استيعابه للمجرد وإدراكه له ولعدم المعرفة والتبصر والوعي بما يجري حوله من ظواهر الكون غير مفهومة عنده وغير قادر على فهمها أصلا ، فهو لا يجد لها في قاموسه المعرفي تفسيرا ولا علية لضيق أفق تفكيره وسوء استعماله العقل أحيانا وتعطيله أحينا أخرى ولاستغنائه عن أدوات المعرفة التي أخصه الله بها دون الكائنات الأخرى التي خلق .
إن عباد الأصنام لتشبثهم بالآلهة ، التي خلقوها في ذاتهم ومن ذاتهم وآمنوا بها واستيقنتها أنفسهم ، فأصبحوا مع مرور الزمن وتتالي الأجيال ، يعتقدون فيها النفع والضر والخير والشر ويجلونها ويعظمونها في أنفسهم إلى درجة أن جعلوها تعلوا ولا يعلى عليها ، بل من أجلها سبوا الله وشتموه ونسبوا له كل نقيصة وكل باطل وظلم بغير علم . ٍِِ[ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ] { سورة الأنعام آية 108 }
إن الكائن البشري خلقه الله لعبادته [ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ] ( سورة الذاريات آية 56- 57- 58 ) فهو مجبول على طبيعة وفطرة التعبد ولا يستطيع ان يحيد عن العبادة بشكل من الأشكال وبصورة من الصور، فإن لم يعبد الله ، فحتما سيعبد غيره بوعي أو بدون وعي ، لأن العبادة بمفهومها العام طبيعية وفطرية فيه وليست تطبعا ولا هي مكتسبة ، فهي تدخل في تكوينه الفيزيولوجي والنفسي ،لا يستطيع أن يحيد ولا أن يستغني عنها ، فهي غريزة بيولوجية ، كغريزة الطعام والشراب وقضاء الحاجات البيولوجية . إن هذا الميل الشديد للتعبد صادف عند بعض البشر الضال ميلا آخر للهوى ولإملاءات النفس الأمارة بالسوء وللشيطان ولأئمة دعاة الضلال الذين يتصيدون امتيازاتهم ويحققون مصالحهم المادية والمعنوية من وراء انحراف الناس عن منهج التوحيد ، الذي يعني في الأساس منهج الحرية والعدالة ورفض الفساد والظلم ومحاربتهما والوقوف مع المقهورين والضعفاء والتحرر من كل ما سوى الله ، وطبيعي ان هذا المنهج لا يروق ولا يعجب كل الذين تتعارض مصلحهم معه فيسخرون كل إمكانيتهم المادية والمعنوية ويتحالفون مع الشيطان ومع كل قوى الشر لمحاربة هذا المنهج الرباني العادل ، الذي لا يحابي أحدا ولا يظلم أحدا . فيزينون للناس عبادة الأصنام ويحاولون أضفاء الشرعية عليها و يستميلون الناس إلى ضلالهم بادعائهم أن هذه الأصنام لا نعبدها لذاتها ، بل لقدسية وبركة استمدتها من الله ، فهي تمثل الله وهي التي تقربنا إلى الله ، وهي التي تلعب دور الوساطة بيننا وبين الله ، لأن الله لا يعلم كثيرا مما نفعل فهي إذا ضرورية وعبادتها واجبة . وقد سجل القرآن الكريم ادعاءهم هذا وحكى لنا عن جماعة من المشركين منهم أنهم كانوا يقولون عن أرباب متفرقة خلقوها لأنفسهم وعبدوها وبرروا عبادتهم لها بقولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ولقد سجل القرآن الكريم قولهم هذا في قوله تعالى [ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ] { سورة الزمر الآية 3 } .
إن كثرة الأرباب وتفرقهم هي الفصل الفاصل بين الدين الحق والمنهج القويم والنظام السليم وبين الفوضى في العقيدة والشرك والكفر والانحراف عن منهج التوحيد ، وعن الإيمان بإله واحد لا شريك له ولا ند .
هذه الكثرة في الأرباب والفوضى في العقيدة ، هي التي أوحت بتصور جديد للدين وللعقيدة يقوم أساسا على تنصيب فئة من البشر أنفسهم آلهة من دون الله وهذه المرحة أسميها بمرحة الأصنام النفسية الروحية غير المادية المرتبطة بالشعور والمغذية للشعور الداخلي واللاشعور ، إذ ظهرت في هذه المرحلة الجديدة ، مجوعة من الأصنام تختلف كليا عن الأصنام المادية القديمة وإن كانت تتشابه معها وتتفق في الشرك بالله والدعوة لعبادة غيره : كصنم الوطن ووثن العلم والنشيد الوطني وكرة القدم والإشهار الكاذب ومعرض الأزياء الفاضحة ورئيس الحزب السياسي والشخصيات الدينية والسياسية النافذة في المجتمع وشيوخ التصوف إلى جانب العديد من الإيديولوجيات والمعتقدات الفاسدة التي تِؤله الإنسان والقوانين الوضعية ، وتنفي وجود خالق الإنسان ، كبعض الفلسفات الوجودية التي تؤمن بوجد الإنسان باعتباره أقدم الخلائق إذ لم يوجد في تصورهم شيء قبله وهو ليس في حاجة مطلقا لإله يوجهه ويهديه السراط المستقيم . أذكر من ذلك ، نموذج فلسفة هدجر الألماني ، وجون بول سارتر الفرنسي ، والفلسفة الماركسية وعلى رأسها كارل ماركس ، الذي نظر إلى الدين على أنه " كيان الظروف العدمي للروح أو هو أفيون الشعوب " وصديقه فلادمير لينين ، الذي انتقد الدين بشدة وبعنف ، إذ سجل مقولته المشهورة في كتابه [ الدين ] " الإلحاد جزء طبيعي لا ينفصل عن الماركسية وعن نظرية وممارسة الاشتراكية " ( نقلا عن مقال بعنوان الماركسية والدين نشر ب وكيبيديا الموسوعة الحرة ) ، ومن قبل كل هؤلاء الفلاسفة كان أرسطو يقول : بأن الله خلق الكون وتخلى عليه وتركه هملا ، ولم يعد يهتم به ، لأن الله يفكر في ذاته فقط ، فهو أعلى وأجل من أن يفكر في ما دونه أو فيما هو مادة . يتبع
وسوم: العدد 830