رحيل مرسي واستحقاقات التغيير

clip_image001_51ff8.jpg 

د. سعيد الشهابي

clip_image003_13ad6.jpg

أثارت وفاة الرئيس المصري المنتخب، محمد مرسي مشاعر الغضب المختزنة لدى الشعوب العربية تجاه الجريمة التاريخية التي ترتكب بحقها جميعا، بدون استثناء، لحرمانها من حقها الطبيعي في تقرير المصير وإقامة أنظمة سياسية حرة. فقد حدثت تلك الوفاة يوم الاثنين 17 حزيران/يونيو، بعد أدائه شهادة تاريخية استغرقت أكثر من عشرين دقيقة أمام محكمة النظام القضائي الذي يديره حكم العسكر. وحدثت بعد ستة أعوام من اعتقاله وهو الرئيس الذي تميز عن كافة رؤساء مصر في العصر الحاضر بأنه اختير من قبل الشعب في انتخابات تميزت بالنزاهة. وجاءت الوفاة لتكشف مدى ما عاناه الدكتور مرسي من اضطهاد سياسي وأمني وراء القضبان، فقد حرم من الزيارات العائلة (ما عدا ثلاث مرات طوال سجنه، أي زيارة واحدة كل عامين) والعناية الطبية لما يقاسيه من أمراض، وأبقي في سجن انفرادي أغلب تلك الفترة. وبرغم المؤاخذات التي يسجلها البعض على نمط إدارته التي لم تستمر سوى عام واحد فحسب، إلا أن سوء معاملته على أيدي حكم عبد الفتاح السيسي غطت على ذلك كله ووفرت له تعاطفا حتى من مناوئيه الايديولوجيين والسياسيين، وبلورت حالة غضب غير مسبوقة ضد النظام العسكري المقيت. هذا الغضب له أسباب عديدة من بينها عدم شرعية نظام العسكر المفروض بقوة السلاح بدون تفويض شعبي او دستوري، وتوحشه في معاملة الشعب وقتله آلاف المواطنين عند مسجد رابعة العدوية وخلال السنوات الست اللاحقة، وتعذيبه المعارضين وإعدام العشرات منهم وفرض أحكام الطوارىء بدون انقطاع وقمعه الحريات العامة والتخلي عن أراضي مصر وسيادتها لأنظمة لا تملك سوى المال النفطي كالسعودية والامارات، وتطويع الدستور لكي يلبي رغبات الرئيس العسكري بالاستمرار في الحكم حتى الموت. هذه الاسباب حولت مصر من مركزها الريادي كأكبر دولة عربية ذات حضارة وثروة بشرية ومادية وطبيعية عملاقة، الى بلد يستجدي المعونات من الخارج وتعيش قطاعات كبيرة من شعبه تحت خط الفقر، ولا يمارس نفوذاً حقيقياً إقليمياً يوازي حجمه الطبيعي ودوره التاريخي. فكيف تحول البلد الذي قامت عليه حضارة الفراعنة وحكمه الولاة المسلمون ولعب دوراً في فتوحات إفريقيا وحكمه عمالقة مثل مالك الاشتر وجوهر الصقلي وسيف الدين قطز الى ذيل لولاة عهد متهمين بتقطيع اجساد معارضيهم أو سجنهم بدون اسباب قانونية، أو معتدين على أراضي الغير بدوافع التوسع والاحتلال ومصادرة الحريات ومنع غرس بذور التحول الديمقراطي؟ لا يمكن التطرق لأوضاع مصر التي توفي فيها الرئيس المنتخب محمد مرسي بدون عرض صورة بانورامية للوضع العربي في الحقبة الحالية. فقد شهدت السنوات الثماني التي أعقبت ضرب ثورات الربيع العربي صعوداً سريعاً لقوى الثورة المضادة وتموضعا غير متوقع لأبشع الانظمة العربية لتحتل صدارة المسار العربي على كافة الصعدان: السياسية والاقتصادية والثقافية. فمن كان يتوقع أن تصبح دولة الامارات هي التي تتحكم في مصر أو تحتل اليمن او تسعى لاحتلال ليبيا أو تتدخل لتحديد مسار ثورة السودان؟ من المؤكد أن أياً من المفكرين الاستراتيجيين أو حتى المنجمين لم يتوقع حدوث ما جرى والسقوط المدوي للضمير الانساني بدفع غربي غير مسبوق. فعندما أزيح زين العابدين بن علي وحسني مبارك ثم القذافي وعلي عبد الله صالح عن الحكم، قفزت مشاعر النصر والانجاز إلى اذهان الاجيال التي عانت من عقود الاضطهاد والقمع والتخلف السياسي الذي عم العالم العربي منذ عقود. كانت مصر، ولا تزال، المؤشر الاهم لاتجاه الوضع العربي في أغلب القضايا. ولذلك فعندما قام رئيسها الاسبق، انور السادات في 1978 بزيارته المشؤومة للأراضي المحتلة ووقع اتفاقات السلام مع «اسرائيل» بدأت مصر طريقها نحو الانحدار السياسي وخسارة موقع الصدارة في العالم العربي. وتواصل ذلك طوال العقود الثلاثة من حكم حسني مبارك. فقد قضي على مصر أن تتخلى عن موقع الصدارة لتتحول الى قوة هامشية يتحكم فيها الملوك والامراء من خارجها. وكان بالإمكان أن تستعيد أرض الكنانة صدارتها من خلال التحول الديمقراطي الذي كان واعداً بعد ثورة 25 شباط/فبراير 2011. وعندما أجريت الانتخابات تعمقت مشاعر النجاح لدى الكثيرين. ولكن سرعان ما تم الانقضاض على تلك التجربة ووأدها في مهدها. وسبق ذلك حملة إعلامية قذرة ضد جماعة الاخوان المسلمين التي كانت مرشحة لتصدر المشهد السياسي والفوز بالسلطة عبر صناديق الاقتراع.

خطة الانقضاض على مصر بدأت بتدفق الأموال النفطية من قوى الثورة المضادة وتحريك مجموعات داخلية للتشويش على النظام السياسي واستهداف جماعة الإخوان المسلمين

في العام 1992 شهدت الجزائر تطورات مهمة كان الاجدر بالإسلاميين استيعابها عن قرب. فقد اكتسحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ (بقيادة المرحوم عباسي مدني وعلي بلحاج) الانتخابات البرلمانية وكادت تقود أول حكومة «إسلامية» منتخبة في العالم العربي. ولكن سرعان ما تدخل الجيش وانقلب على التجربة الديمقراطية وأسقطها واعتقل قادة الجبهة. وبذلك دخلت الجزائر حربا «اهلية» حصدت أرواح ما يقرب من 200 ألف إنسان. لم يتوقف الكثيرون عند تلك التجربة. فاذا بها تتكرر في مصر. هذه المرة كان المشهد أكثر وضوحا ومخاطره على قوى الثورة المضادة أوسع، فصعود الإخوان المسلمين عبر صناديق الاقتراع كان كفيلاً بتغيير المشهد السياسي العربي وإعادة صياغة التوازن السياسي والايديولوجي في منطقة فقدت هويتها منذ أن تعرضت للاستعمار بعد سقوط الدولة العثمانية قبل مئة عام تقريبا. بدأت قوى الثورة المضادة بقيادة السعودية ومشاركة الامارات والبحرين ومصر و«اسرائيل» بتعبئة قواها، مستعينة بالخبرات الانجلو ـ أمريكية للانقضاض على خيارات الشعوب واستعادة زمام المبادرة السياسية للإبقاء على الاوضاع الراهنة التي سعت الولايات المتحدة لهندستها وفق معاييرها الخاصة. وأهم هذه المعايير الحفاظ على التفوق العسكري الاسرائيلي في مقابل الدول العربية والتصدي للإسلام السياسي كمنافس للمشروع الغربي الذي يتصدع من داخله. بدأت تجربة قوى الثورة المضادة باجتياح البحرين في منتصف آذار/مارس 2011، ثم دعمت قوى الإرهاب في العراق وسوريا وأشعلت في هذين البلدين نيرانا مدمرة من الطائفية والعنف والدمار لكي لا ينهضان وينافسان الأباطرة الجدد في الرياض وأبوظبي. مع ذلك بقيت مصر مصدر قلق دائم وإن كان تحولها للديمقراطية محدوداً وخاضعاً لإرادة العسكر ومحفزاً للانقضاض على خيارات الشعب. بدأت خطة الانقضاض على مصر بتدفق الاموال النفطية من قوى الثورة المضادة وتحريك مجموعات داخلية للتشويش على النظام السياسي واستهداف جماعة الاخوان المسلمين بالتشويه والاتهام وخلق فوضى داخلية لإظهار عدم استقرار الوضع ومن ثم تبرير أي إجراء لاحق للتدخل بدعوى الحفاظ على الامن وحماية مصر من الفوضى واعادة الاستقرار والامن. وأُثيرت الفتن الطائفية والدينية، فتعرض بعض الكنائس للحرق والتدمير، وانتشرت الاغتيالات ومنها قتل الشيخ حسن شحادة وبعض اتباعه للإيحاء بطائفية الإخوان ضد الشيعة. لم يحدث أي من ذلك بشكل عفوي بل كان ضمن مشروع الفوضى الخلاقة التي تجعل التخلص من النظام، بأية طريقة ممكنة، أفضل من الحفاظ على الوضع القائم. وتمت محاصرة الرئيس مرسي اداريا من قبل الدولة العميقة التي تخلصت من حسني مبارك واحتفظت بقدراتها ومناطق نفوذها. وبدت مصر فجأة على حافة انهيار امني وسياسي يتطلب علاجا سريعا. فتم الانقلاب العسكري في نهاية تموز/يوليو 2013 لتبدأ مرحلة تصفية الاخوان المسلمين بدون رحمة. لقد شنت على الجماعة حملة أمنية غير مسبوقة، فاتهموا بمصادرة الآخرين وتمزيق مصر والعمالة لإيران تارة، والتخابر مع قطر او حماس تارة أخرى. وعلى الصعيد الداخلي اتهموا بإقصاء الآخرين وتحولهم الى خطر على الامن الاجتماعي وتهميش دور المرأة والعداء للأقليات الدينية والمذهبية. تم ذلك ضمن مشروع يهدف لأمرين: إنهاء صفحة الثورة الشعبية التي انطلقت في 25 شباط/فبراير 2011 والتخلص من جماعة الاخوان المسلمين ليس من الحكم فحسب بل من مصر كلها. الامر الواضح أن هناك تواطؤاً غربياً مع قوى الثورة المضادة الخمس المذكورة، فلا يزال زعماؤها يستقبلون على أعلى المستويات كرجال دولة، وما يزال التعامل معها مستمراً. فبرغم صدور قرار من المحكمة العليا البريطانية الاسبوع الماضي بتأكيد «عدم قانونية» بيع السلاح البريطاني للسعودية التي تستخدمه في مخالفة صريحة للقانون الانساني الدولي، فمن غير المتوقع تنفيذه كاملا. فلن تلغى صفقة بيع طائرات تايفون بأكثر من سبعة مليارات دولار، وهي طائرات ستستخدم لقصف المدنيين في اليمن. الغرب لم يتخذ أي إجراء حقيقي ضد محمد بن سلمان الذي أكدت محققة تابعة للأمم المتحدة دوره في اغتيال جمال خاشفجي. كما لم يتخذ الغربيون أي إجراء ضد نظام السيسي في ما يتعلق بقتل الباحث الايطالي بجامعة كامبريدج (جوليو ريجيني) الذي اختطفته المخابرات المصرية في شباط/فبراير 2016 وعذبته حتى الموت. ولكن وفاة محمد مرسي بالطريقة التي حدثت بها أثارت شجون الكثيرين خصوصا ضحايا القمع السلطوي الرهيب في الدول التي انقضت قوى الثورة المضادة على نشطائها ونكلت بهم خصوصا البحرين ومصر. يضاف الى ذلك ان تلك القوى مستمرة في استفزاز جماهير العرب والمسلمين بدون توقف في غياب الردع المحلي او الدولي. هذه القوى تعلم أن الممارسة الديمقراطية في مصر كانت ستغير موازين القوى في المنطقة لو سمح لها الاستمرار، وستحول دون إقامة مشروع تصفية القضية الفلسطينية الذي سيدشن من الورشة الاقتصادية السياسية التي ستعقد في البحرين هذا الاسبوع. لقد جلبت هذه القوى العار للأمتين العربية والإسلامية وساهمت في دعم الاحتلال الاسرائيلي وتصدت للشعوب بوحشية غير مسبوقة، ولكنها ستعجز عن اغتيال مشروع التحول الديمقراطي في المنطقة الذي تأخر كثيراً. ولعل وفاة مرسي يصبح ناقوساً يوقظ النيام ويحقق أحلام الشعوب بإنهاء الديكتاتورية والاستبداد في عالمنا المبتلى.

وسوم: العدد 830