مرسي من عام الأمل إلى أعوام الرمادة
شكلت وفاة الرئيس المصري محمد مرسي صدمة كبيرةً لعموم المتابعين والمهتمين، ولجميع من يرفض الانقلاب الغاشم في مصر، لقد توفي الرئيس المصري مسجونًا بعد ست سنوات من احتجازه مظلومًا في سجون الانقلاب، وخلال هذه السنوات لم يفتر ثابتًا على مواقفه، مصابرًا رابط الجأش، كانت سجانوه يخافونه، فلم يكتف هذا النظام بوضعه في الحبس الانفرادي فقط، بل وضعه خلال محاكماته في قفصٍ زجاحي، ليكون تواصله مع من حوله في حدوده الدنيا.
وبعد هذا المصاب الجلل ما زالت لحظة الإعلان عن فوز الرئيس الشهيد محمد مرسي عالقة في ذاكرتي، كيف هللنا وفرحنا وسعدنا، سعادة انطلقت من مصر ووصلت لكل بيت في العالم العربي، لقد كانت لحظات اختطفنا فيها فرحًا صادقًا، وأملًا قادمًا، كان الإعلان عن فوزه لحظة فرح لكل حرٍ في هذا العالم، كان حلمًا جميلًا أن الشعوب قادرة على مواجهة الدولة العميقة، وأننا بلغنا ذلك العهد الذي يتمكن الواحد منا أن يختار مرشحه بكل حرية وطمأنينة، وأن هذه الشعوب المكلومة ستصبح وأخيرًا قادرة على صناعة حياة كريمة... وأن تحاسب حاكمها مثلما قامت باختياره، ولكنه حلمٌ رائع ما لبثنا أن استيقظنا منه مكرهين.
وها هي لحظة الفراق تعيدنا للنقطة الأولى، عن أحلام جيل مبعثرة، عن آلام أمة تخوض المخاض للتخلص من زبانية الحكم وفراعنة الدول، عن مآلات الربيع التي حولها الظلمة وأصحاب المال إلى شتاء كئيب قاتم، فدعموا المتغلبين، ويجهضون الثورات من مصر إلى ليبيا وأخيرًا السودان، كأن الشرّ يتمثل بهم، كائنًا من كانوا، ممن يلبس "الشماغ" أو "العمامة" أو غيرهما، من يسبق اسمه الألقاب الطنانة، والأسماء المقدسة، كلهم شركاء في جريمة قتل مرسي، وجرائم بعدد حسرات وآلام الأمهات في أمتنا.
تكثر الموافقات في استشهاد الرئيس محمد مرسي رحمه الله، فمن التاريخ وما وافق ذلك من أعلام من الصحابة الكرام والعلماء، وصولًا إلى منع السلطات القمعية الجائرة في مصر دفنه بحضور محبيه ورفاق وعموم الأحرار في مصر، ودفنه في ساعة متأخرة من الليل، ولم يحضر جنازته إلا ولداه فقط ومحاميه، وصلي عليه في مسجد السجن، في صورةٍ تعيد إلى الأذهان مشهد جنازة الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى.
هو الإجرام نفسه الذي استوطن بلداننا أكثر من سبعين سنة، هي محاولة لخنق أهل الحق وتورية الجريمة، هم يظنون أن دفن الشهداء في جنح الليل سيضيّع ذكرهم سريعًا، سيمنع محبيهم من الهتاف باسمهم، يظن هؤلاء الظلام أنهم بذلك سيغيّبون عن الناس حقيقتهم البشعة، وسيستطيعون محو صورتهم الدموية المفزعة من أذهان الناس، وأن الأحرار سينسون جرائمهم سريعًا... فهم يخافون من احتشاد الناس، لأن مئات الآلاف إن لم يكن الملايين ستشارك في تشييع شهيد عزيز بطل.
لم يحضر دفن البنا إلا والده، فأين فكره ومدرسته اليوم، وأين سجانه وقتلته؟
وهو مشهد تكرر مع جنازة الرئيس مرسي، سيخلد التاريخ الرئيس الشهيد وسيذهب سجانوه إلى مزابل التاريخ، وسيبقى ذلك العام اليتيم وما سبقه من وصوله للرئاسة دقائقنا الأصدق... لم تكن تجربة خاصة بالمصريين فقط، بل هي صورة تعنينا جميعًا، عن قدرة ذلك العربي المسلم على إعادة استلام زمام الأمور، عن عودة مصر حاضرة العرب والمسلمين إلى الريادة... عن انخراط الشباب في العمل الحكومي، وتحقيقهم إنجازات رائعة، عن مواقف مشرفة من قضايا الأمة، تخرج عن رئيس لا عن الشعوب فقط، عن أحزان عديدة تتابعت منذ الانقلاب، وكنا نصبّر قلوبنا، بأن رجل الشرعية سيخرج من سجنه ويعود ليكمل ما بدأه، ولكن الخروج هذه المرة لا عودة بعده، ولكن القاضي الآن، هو الحكم العادل الذي لا يظلم عنده أحد.
سرقوا منا عام الأمل والتطلع للتغيير، وجعلوا ما بعده أعوام قحط ورمادة، وهي الأيام تتقلب، فلربما نشهد مقتل من يستعلي اليوم في الأرض، ونرى فيه ما صُنع بغيره من الطغاة، وما القذافي وعبد الله صالح ببعدين عنه. بين البنا ومرسي صورة مصغرة لحالنا خلال أكثر من سبعين عامًا، جمعتهما الفكرة والدعوة وفلسطين ولحظات وداعهما الأخيرة وأمور أخرى كثيرة... والعقبى للأثر، وللظالم وعدٌ من الحق (فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
وسوم: العدد 831