تدمر.. مجزرة تلد مجازر
حين قررت صنع فيلم عن سجن تدمر الرهيب بعنوان "تدمر.. حدثني السجين والسجان" لشبكة الجزيرة الفضائية، كنت أفعل ذلك وفاءً لمن رحل، فالتذكر بحد ذاته وفاء، وعصمة من عاقبة مماثلة لمن بقي حياً، فلا شيء ينكد على الظالم المجرم من التذكير بجريمته صباح مساء، ولا شيء يسرّي ويسلي الضحية وأهلها من التذكير بمعاناتها، ومع هذا سيظل تدمر وغيره من السجون العربية المرعبة وصمة عار في جبين الإنسانية كلها، ليس لوجوده فحسب، فالشر والخير موجودان، وسيظلان منذ أن خلق الله الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لكنه وصمة عار لصمت الإنسانية عن مجازر وتعذيب كانت تحصل بشكل لحظي وعلى مدى ثلاثة عقود تقريباً، والصمت هو الوجه الآخر للمشاركة في الجريمة..
التقيت خلال إعداد الفيلم بوجوه كثيرة مظلومة وظالمة، ولأول مرة استطعت الوصول إلى السجان، وكذلك إلى مدير أمن سجن تدمر الذين أبديا ندماً عمّا حصل، ولكن كليهما كانا أدوات بأيدي المجرم الحقيقي ومن خلفه الإجرام الذي وفّر صمتاً عالمياً رهيباً على تلك المجازر التي تقشعر لها الأبدان، كلها وثقت الآن بأفلام وكتب وروايات، ولكن ما فائدة ذلك كله، ما دام القاتل طليقاً بل ومقيماً في مقاهي ونوادي أوروبا، وما دام يتمشى ويتبختر هناك حيث ضحاياه يتشاطرون وإياه غربة عن وطنهم، وشتان بين الغربتين.
كما يتشاطرون أمراً آخر وهو أنه بينما القاتل الطليق لا يزال وفياً لإرثه الدموي الإجرامي ومدافعاً عنه حتى اليوم، بينما الضحايا أوفياء أيضاً لإرثهم البطولي والإنساني ولذا يسعون إلى ملاحقته في محاكم دولية، ولكن تلك المحاكم ثبت أنها الوجه الآخر لحماية القتلة والمجرمين، إنه قائد سرايا الدفاع رفعت الأسد شقيق الرئيس السابق حافظ الأسد الذي كان لا يقبل خروج أي سجين دون موافقة شخصية منه، فرفعت وسراياه هم من نفذوا جريمة السابع والعشرين من يونيو/حزيران من عام 1980..
وفي كل عام من السابع والعشرين من شهر يونيو/حزيران يستذكر السوريون هذه المجزرة الرهيبة التي استأسد فيها قطعان سرايا الدفاع الطائفية المجرمة على مئات من خيرة أبناء سوريا قتلاً وتمثيلاً، وهم في داخل زنازينهم لا حول لهم ولا قوة، وحين تحدثت مع مانديلا سوريا الذي قضى أكثر من عقدين في سجن تدمر وكان من أوائل نزلائه يستذكر لنا كيف كانت الدماء تجري من تحت أبواب الزنازين وما شفع له بأن ينجو من المجزرة كونه من البعث العراقي وليس من الإخوان المسلمين..
اليوم نستذكر هذه المجازر كعربون وفاء لمن رحل، وكم نحن بحاجة إلى عرابين وفاء مقبلة لمجازرنا ومآسينا، لقد تحوّلت سوريا إلى سوق مجازر مفتوحة بعيداً عن جدران الزنازين وأقبية السجون الآن، وغدت مجازر بتوقيع احتلالات أجنبية ومعها صمت عالمي مخيف، وبتنا نرى مجازر بطعم الكيماوي، أو بطعم السكاكين والسواطير كما حصل في الحولة بحمص، ومجازر بطعم البراميل المتفجرة، ومجاز ومجازر ومجازر..
ليس أقسى على المجرم من التذكير بمجازره ومذابحه، وليس أقسى عليه من التشهير به، والوفاء للضحايا، وليس شيئاً يسرّي على ذوي الضحايا أكثر من الحديث عن مأساتهم ومجازر أحبائهم، فهذا التذكر ليس من حق من رحل وإنما من حق من بقي على قيد الحياة أيضاً، فكما هو تذكر ووفاء لمن رحل، فهو تذكر لم بقي بحيث يكون عصمة لعاقبة مماثلة له، وبالتالي ليشعر الطاغية والمجرم أن القاتل لن يبقى طليقاً، فإن هرب من محكمة الدنيا فلن يهرب من محكمة الشعوب والتاريخ والذكرة بحيث تطارده اللعنات، ولعذاب الآخر أشد وأبقى.
وسوم: العدد 831