فلسفة الحرية وعلاقتها بالتشريع
مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
الإنسان كائن إجتماعي يعيش في مجموعات منذ خلق الله تعالى الخليقة ولتنتظم حياة الإنسان والمجتمع لابد من وضع القواعد القانونية التي تحدد نطاق العلاقات بين المواطنين أنفسهم، أو بينهم وبين السلطات العامة في الدولة، فالعلاقة الأولى أي بين الأفراد أنفسهم توصف بالعقدية فحين يتعامل الناس مع بعض يبرمون شتى صور التعاقد كعقد الزواج والبيع والإيجار وغيرها، بينما تكون علاقة الفرد بالسلطة العامة كأصل عام تنظيمية أي يوضع القانون والقواعد العامة لتنظم أواصر هذه العلاقة، ويحدد مركز كل طرف بدقة وأي تمادي يعد تعسفاً في استعمال السلطة ان كان مصدره السلطات العامة، أو تعسفاً في استعمال الحق ان كان مصدره الفرد.
فالقواعد القانونية على اختلاف أنواعها ودرجاتها تنظم العلاقات المتقدمة من أصغر حلقة حتى الوصول إلى الحلقة الأكبر الممثلة بممارسة الحريات العامة والخاصة لاسيما منها السياسية التي تترك أثراً مباشراً على تكوين واختصاصات الهيئات العامة، والتنظيم المسبق يفتح الطريق لممارسة الأدوار المختلفة المعهودة للفرد أو الهيئة العامة على أساس من احترام المساواة والكرامة والحرية كأصل عام وبما يمنع الفوضى والاستبداد أو التعسف أو الاستغلال غير المشروع.
فالقانون باختصار يرسم أسس العلاقة بين الحاكم والمحكوم أو يؤطر العلاقة بين الحرية والسلطة، فالعلاقة بين المفهومين قانونية تنظيمية وحتمية فلا يمكن لأي منهما العيش بدون الآخر، فلا السلطة قادرة على ممارسة دورها دون التدخل بشأن الأفراد، ولا حياة الأفراد تنتظم دون وجود السلطة، ولهذا نقول لابد من تنظيم الرقابة لضمان حياد السلطة وموضوعية تدخلها بحياة الأفراد من جهة ومنح السلطة ضمن نطاق معين الحق بالتدخل والتنظيم لممارسة الحريات ومنع الاعتداء على حريات الآخرين، وهو ما يمكن أن يضمن لنا تحقيق الأهداف المرسومة في الدستور والوثائق الخاصة بالحقوق والحريات عامة التي وضعت لتكفل عيش الجميع بشكل طبيعي.
وتعرف الحرية بتعريفات عدة فهي مكنة أو تمكين قانوني للمواطن بالقيام بعمل معين مع القدرة على تركه دون أن يكون محل محاسبة من جهة ما، أوهي القدرة على فعل الأشياء أو تركها بحماية القانون بشرط عدم الإضرار بالغير فحين تنتهي حرية الفرد تبدأ حرية الآخرين، والسبب في اختيار موضوعنا المتعلق بتأصيل العلاقة بين الحرية والقانون لما لاحظناه من خلط لدى الكثير من المهتمين بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، فعلى المختصين أولاً والمهتمين ثانيا التمييز بجلاء بين الحق والحرية أولاً ثم التمييز بين طبقات الحقوق والحريات العامة والخاصة ليسهل عليهم فهم العلاقة التنظيمية بين الحرية من جهة والقانون من جهة أخرى.
فالحرية أوسع من الحق بل هي كمفهوم تستوعب الحق فهي رابطة بين إرادة شيء معين وقدرة الفرد على القيام بذلك وهذه الرابطة القانونية قد تكون طبيعية إنسانية مستقاة من الاعتراف بالكيان المقدس للإنسان الذي كرمه الله تعالى على المخلوقات الأخرى، وقد تكون إجتماعية ضرورية لحفظ الكيان الجماعي الذي يعيش فيه الفرد، فليس بشرط ان ينظمها القانون لتتحول إلى حرية بل قد يسكت النص القانوني عن تنظيمها فلا يحول ذلك دون اعتبارها حرية للمواطن وغير المواطن بشرط عدم الإضرار بالغير.
لهذا نقول تناول أو تداول المخدرات هل يعد حرية؟ الجواب ما اشترطنا هل سيضر بالغير؟ حتما الجواب نعم، فالحرية بمثابة الرخصة للجميع بالقيام بعمل معين ضمن إطار جماعي فلا يجوز تجاوز الآخرين، بينما الحق مستخلص من النصوص القانونية المنظمة لهذه الرخصة، بل الحق أحد مظاهر الحرية فحين التنظيم ترتفع الحرية إلى مرتبة الحق الخالص المضمون بالنص القانوني، فالأصل بالأشياء الإباحة أي الأصل بكل التصرفات الإنسانية الحرية، والاستثناء هو التنظيم الذي سيمنع أو يسمح فإن كان السماح تحول إلى حق، فالحرية مملوكة للإنسان بصفته الإنسانية وملاصقة له إذ تولد معه، بينما الحقوق قد تمنح له أو تمنع عنه أو تقيد بالنسبة إليه.
ولنعطٍ مثال فالإنسان من حريته التملك أي تملك الأموال المنقولة والعقارية، بيد ان هذه الحرية ينبغي ان تنظم لتتحول إلى حق والملكية لتكتمل لابد من توافر عناصرها التي يخول المالك ممارستها وهي الاستعمال والاستغلال والتصرف (فالاستعمال كسكن الدار والاستغلال كإيجارها للغير والتصرف كبيعها أو هبتها للآخرين)، وهنا يأتي التقييد ليمنع المجنون أو الصغير من التصرف ويسمح له بالاستعمال وإلى حد ضيق بالاستغلال وهذا عين ما نقول ان العلاقة بين القانون والحرية تأتي كمرحلة تالية للاعتراف بالحرية أولاً، وحق المشرع بالتنظيم لضمان لحرية الآخرين وضمان للجماعة الإنسانية ككيان مستقل عن الأفراد المكونين له، فيرد التقييد على الحرية عندما تتحول إلى حق.
أضف إلى ما تقدم الحرية بما أنها تعلو على كل شيء بوصفها أساس إنساني فلا يقابلها التزام تجاه الغير بعبارة أخرى قبل تنظيمها لا تقابلها التزامات تجاه الأغيار فالحرية بالتملك مطلقة للجميع لهم تملك ما يشاؤون فان تملك الإنسان قطعة من الأرض تحول الأمر إلى حق وحينها نظمت الالتزامات تجاه الغير فعدم استغلال الملك الخاص بما يضر بالجوار أمر محتوم، وللدلالة على ما تقدم نستشهد بالمادة (23) من دستور جمهورية العراق لعام 2005 التي تقضي في البند الأول منها بأن (الملكية الخاصة مصونة ويحق للمالك الانتفاع بها واستغلالها والتصرف بها في حدود القانون) والمادة المتقدمة دليل واضح ان المقصود بالملك هنا هو حق التملك وليس حرية التملك.
من جهة أخرى لنفهم الأمر بشكل أكثر نعرض للأثر المترتب على الاعتراف بان لإنسان العراقي الحق أو له حرية، فهذه العبارة تعني ان صاحب الحق أو الحرية في مركز قانوني يؤهله لاستعمال الحق أو العمل في حدود الحرية والفارق بين الأمرين كبير أيضاً فما تحدثه الحرية هو مركز عام غير محدد يمكن للجميع التمتع به بلا أي استثناء فهي لا تحتم الاستئثار بشيء محدد كالحق إنما هي رخصة القيام بعمل معين، بينما الحق يضع الإنسان في مركز قانوني محدد يمكنه الاستفادة من إمتيازاته.
وعلى سبيل المثال حرية الانتخاب أو حرية الترشح هل هي حقيقة حرية ام إنها حقوق؟ الجواب هي حقوق فالترشح للخدمة العامة لو كان حرية ينبغي أن يكون خالصاً من أي شرط يقيده أو يضيق من نطاقه، بينما المشرع يشترط شروط كالجنسية والسن والأهلية وعدم الانتماء لحزب البعث المنحل و....الخ، وكل ما تقدم قيود لهذا هي تحول هذه الحرية إلى حقوق بعينها يمكن لفئة من الناس ممارستها والتمتع بها وتمنع عن فئات أخرى فسن الترشح إتمام الـ 30 سنة هذا يعني من أتم 29 سنة من عمره محروم رغم ان ما يفصله عمن ترشح قد يكون بحساب الأيام أو الساعات فحسب، لهذا المراكز القانونية في الحريات متشابهة وفي الحقوق متباينة تباين كبير جداً في بعض الأحيان، ويؤيد كلامنا الاستشهاد بالمادة (20) من دستور العراق التي تنص على (للمواطنين، رجالاً ونساءً حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح)، وفي ما تقدم دلالة واضحة ان الترشح والانتخاب حق لهذا يمكن تقييده وهو ما فعله المشرع بقانون انتخابات مجلس النواب رقم (45) لسنة 2013 وقانون انتخابات مجالس المحافظات والأقضية رقم (12) لسنة 2018 حين حدد من يجوز لهم الانتخاب وحرم الآخرين ومن يجوز له الترشح وحرم الآخرين.
وبالفهم المتقدم نعود للدستور العراقي لعام 2005 الذي تناول الحقوق والحريات في الباب الثاني المعنون بـ"الحقوق والحريات" والذي تم تقسيمه إلى فصلين الأول بعنوان "الحقوق" والثاني بعنوان "الحريات" بيد إن التقسيم المتقدم محل نقدنا والسبب واضح لان المادة (37) في فقرتها الأولى تنص على أن "حرية الإنسان وكرامته مصونة" وهذا النص المتقدم شديد الأهمية كونه يرسم أطر العلاقة بين سلطة المشرع التقديرية في سن القوانين والحرية عند تنظيمها فالأصل في حريات العراقيين كلها مصونة سواء أتم النص عليها في الدستور صراحة أم لم يرد بشأنها نص بيد ان النص المتقدم يشير إلى إنها مصونة وهذا لا يكفي فكان على المشرع ان يكمل العبارة بالقول "وان تنظيمها لا يكون إلا بقانون" على أن لا يمس القانون جوهر الحرية ذاتها وما حصل إن المشرع العراقي أختلط عليه الأمر لهذا نص في المادة (46) على أنه "لا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناء عليه، على ألا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية" معنى ذلك إن المشرع لا يؤمن بالتنظيم بل يؤكد سلطة البرلمان في التقييد والتحديد وكأنه الأصل هو الحظر والمنع وليس الإباحة ثم عندما يكون التقييد بقانون أو بناءً على قانون يخول الحكومة ذلك فهذا التوجه الدستوري سيفتح الباب على مصراعيه لقيام السلطة التنفيذية بالتقييد كيفما تشاء، وهذا الخطر بعينه على الحريات في العراق.
من جانب أخر الحريات غير المنصوص عليها في الدستور كحرية التوقف عن العمل أو الحرية في الإضراب ما هو حكمها؟؟ هل تخضع لذات الضابطة أي ضرورة التقييد والتحديد بقانون يصدر عن البرلمان أو بقرار يصدر عن الحكومة، أم نعمل نص المادة (37) التي تضمن الحرية للعراقيين وكان النص فيها مطلق على الحرية مطلق الحرية بلا أي تقييد بنوع معين من الحريات سياسية أو مدنية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها؟ ثم لنعطٍ مثالاً أخر عن التخبط في الدستور العراقي لعام 2005 الذي ينم عن عدم فهم المشرع لحقيقة التمييز بين الحق والحرية وهو نص المادة (38) التي تأتي لتحدد أهم حريات الشعب العراقي ألا وهي حرية الرأي ((تكفل الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب:
أولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.
ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.
ثالثاً: حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون)).
والسؤال هنا القانون الذي سيصدر ينظم فقط البند الثالث أي الاجتماع والتظاهر أم يشمل حرية التعبير والصحافة هذا دليل دامغ على الصياغة القاصرة والغموض غير المبرر في التعبير عن إرادة الشعب في صياغة الدستور بما من شأنه ان يكون مقدمة لتعريض حريات الشعب للخطر، وحين نجد البرلمان اليوم يبحث في مشرع قانون المعلوماتية تارة ومشروع قانون التظاهر تارة أخرى وغير ذلك من المشاريع التي تم التقدم بها من السلطة التنفيذية أو التشريعية لتشرع وتطبق في العراق ولكن أي منها لم ير النور بعد، هل يمكن من خلالها الوصول إلى تقييد الحرية؟
الجواب عندنا كلا يجب ان تبقى حرية التعبير عن الرأي مطلقة وان التقييد يرد على بعض صورها كالتظاهر لضمان عدم تعارضه مع بقية الحريات وعندما يصدر قانون التظاهر سيتحول التجمع والتظاهر إلى حق، وعندما يمارس أحد الأفراد أو مجموعة منهم هذا الحق ويتم الاعتداء عليه والانتقاص من حقوقه من قبل أي جهة كانت سيكون ذلك إعتداء على مصلحة قدر المشرع إنها جديرة بالحماية فوفر لها الحماية القانونية ما يوجب معاقبة المعتدي ولو كان ممثل للسلطة العامة (الحكومة)، فالحريات مقررة للإنسان العراقي بحكم إنسانيته لا يحد منها أي قانون يشرعه المشرع أو أي قرار تتخذه الإدارة ما عدا القيود الطبيعية التي يوردها الدستور بوصفه المظلة الضامنة للحريات كعدم التعارض مع النظام العام المتمثل بمصالح ذات أهمية كبرى للمجتمع أو الآداب العامة، وإلا كان ذلك مقدمة للعصف بالحريات وباب من أبواب الانحراف، ولا نقصد مما تقدم عدم تنظيم الحريات، بل ان يؤمن المشرع بالحريات وقيمتها الدستورية التي تنبع من القيم الإنسانية والتنكر لهذه الحريات يعد انتقاص من هذه القيمة العظيمة، وان الحريات بمختلف أنواعها المنظمة وغير المنظمة تعد التزاماً على الدولة بكل مكوناتها.
ولما كان المواطن أسبق من الدولة وقيمة أعلى حتى من مؤسساتها كان لابد من الاعتراف له بالحريات وتقديسها ومنع التعرض لها وما ينقص المادة (37) والمادة (46) من الدستور ضرورة التأكيد ليس على قدرة المشرع والسلطة التنفيذية بتقييد الحرية وتحديدها بل التأكيد على قيمتها وبيان حدودها الحقيقية التي تتمثل في ثابتين الأول القيمة الذاتية لحرية كل فرد من أفراد المجتمع والثاني ضرورة تماسك المجتمع ليعيش بشكل متضامن ويدرأ عن كيانه الأخطار.
وسوم: العدد 833