أعقل الأمم .. ابن المقفع
نقل على صفحتي معلقا كلام " الماغوط " في هجاء أمتنا وسبها وتحقيرها والنيل منها ولم يكن مستغربا ..ممن أورثوا شعبنا هذا الدم وهذا الذل وهذا الجهل ..
وأردت أن أرد عليه .. فما وجدت خيرا من كلام عاقل منصف مثل ابن المقفع ، وإني ليخيل لي أنه ما قتل ابن المقفع إلا دسائس الفرس عقوبة له على مثل هذا الكلام .
أقبل ابن المقفع على جلسائه وكانوا من العرب الخلص يوما فسأل : أي الأمم أعقل ؟ قالوا : فظننا أنه يريد الفرس ، فقلنا : فارس أعقل الأمم ، نقصد مقاربته ، ونتوخى مصانعته.
فقال : كلا، ليس ذلك لها ولا فيها ، هم قوم علموا فتعلموا ، ومثّل لهم فامتثلوا واقتدوا ، وبدئوا بأمر فصاروا إلى اتباعه ، ليس لهم استنباط ولا استخراج.
فقلنا له : الروم. فقال : ليس ذلك عندها ، بل لهم أبدانٌ وثيقة وهم أصحاب بناء وهندسة، لا يعرفون سواهما، ولا يحسنون غيرهما.
قلنا : فالصين. قال : أصحاب أثاثٍ وصنعة ، لا فكر لها ولا روية.
قلنا : فالترك. قال: سباع للهراش. يعني مقاتلين شجعان وأصحاب بأس وقوة .
قلنا : فالهند. قال : أصحاب وهم ومخرقة وشعوذة وحيلة.
قلنا : فالزنج ، قال : بهائم هاملة. وهذه عنصرية مفرطة .
فرددنا الأمر إليه.
قال : العرب. فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض، فغاظه ذلك منا، وامتقع لونه ، ثم قال : كأنكم تظنون فيَّ مقاربتكم ، فوالله لوددت أن الأمر ليس لكم ولا فيكم ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب .
ولكن لا أدعكم حتى أبين لكم لم قلت ذلك ، لأخرج من ظنة المداراة ، وتوهم المصانعة.
إن العرب ليس لها أولٌ تؤمه ولا كتابٌ يدلها ، أهل بلد قفر ، ووحشةٍ من الإنس ، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله ؛ وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض فوسموا كل شيء بسمته ، ونسبوه إلى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه ، وأوقاته وأزمنته ، وما يصلح منه في الشاة والبعير .
ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعياً وصيفيا ً، وقيظياً وشتويا ً؛ ثم علموا أن شربهم من السماء ، فوضعوا لذلك الأنواء ؛ وعرفوا تغير الزمان فجعلوا له منازله من السنة ؛ واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض ، فجعلوا نجوم السماء أدلةً على أطراف الأرض وأقطارها ، فسلكوا بها البلاد ؛ وجعلوا بينهم شيئاً ينتهون به عن المنكر ، ويرغبهم في الجميل، ويتجنون به على الدناءة ويحضهم على المكارم ؛ حتى إن الرجل منهم وهو في فجٍ من الأرض يصف المكارم فما يبقى من نعتها شيئاً ، ويسرف في ذم المساوىء فلا يقصر ؛ ليس لهم كلام إلا وهم يحاضون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد ، كل واحد منهم يصيب ذلك بعقله ، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلمون ولا يتأدبون ، بل نحائز مؤدبة ، وعقولٌ عارفة فلذلك قلت لكم : إنهم أعقل الأمم ، لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم .
انتهى كلام ابن المقفع ...
وقال زهير : ولما علم الله ذلك منه جعلهم حملة كتابه ، والشهود على خلقه . فأرسل فيهم رسولا من أنفُسهم ومن أنفَسهم ، فعلمهم الكتاب والحكمة . وكان فضل الله عليهم عظيما .
ولئن دالت دولتهم يوما ، وتحكم بهم أعداؤهم ، وأفسدوا عليهم الكثير من أبنائهم وبناتهم ، فإنهم ما زالوا يملكون دليل العزة ، ومفاتيح التمكين . قوم إن انتصروا انتصرت بنصرهم إنسانية الإنسان وكرامته وعزته وسعادته ..
فأبشروا وأملوا فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا
وسوم: العدد 834