أرض الطغيـــان
لا يملك المرءُ نفسه عندما يتأمل في خارطة الوطن العربي التي تمتد من الخليج إلى المحيط، وهو يشاهد مظاهر التخلُّف والجهل والضلال الثقافي الذي عشَّشَ في أرجائه!
لا يملك المرءُ نفسه عندما يشاهد ذلك البلاء في أرض الأنبياء، ومهبط رسالات السماء ... فما مِن مكان في تلك البقاع إلاَّ وظهرت فيها نبوَّة، وتلألأت فيها رسالة سماوية!
وجوهر المشكلة يكمن في (الاستبداد السياسي) الذي استوطن في بلادنا؛ فهو أخطر الأمراض وأفتكها على الإطلاق، بلْ هو أشدّ المصائب التي تُبتلى بها الشعوبُ والأُمَم، ولم يسجّل التاريخ وجود دولة واحدة أجلب عليها طاغية؛ إلّا وحلَّت فيها الكوارث. وإنَّ الشعب الواقع تحت قبضة الطغاة، لا خيارات أمامه سوى أن يموت ذليلا، أوْ يموت ثائرا. ولا فرق بين مُوالِ ومعارض؛ فالمُوالي الذي يصرخ جوعاً مثله مثل المعارض الذي يصرخ حرية. والعدو بالنسبة للطاغية؛ هو كل مَن يرفع صوته شاكيا.
لقد انقرضتْ عائلة الطغيان، وجفَّت منابع الاستبداد في العالَم كله، إلاَّ في بلادنا، فما يرحل طاغية؛ إلاَّ وأتى مَن هو أطغى منه، وما يسقط مستبدّ؛ إلاَّ وخلَفه مَن هو أشدّ استبداداً وإجراماً.
بلْ إنَّ أطغى الجبابرة، وعميد الطغاة (فرعون) لم يظهر إلاًّ في أرضنا. كما أنَّ (الاسكندر) لمْ يتألَّه إلاَّ بعدما غزا مصر!!
مِن هنا نعلم؛ مغزى تكرار قصة (فرعون) في القرآن المجيد، وعرضها على هذا النحو العجيب! فقد وردت هذه القصَّة في سبع وعشرين سورة، فضلاً عن الإشارة إليها في ثنايا بعض السور الأخرى، وقد جاءت مُفصَّلة تارة، وموجزة تارةً أخرى، وعرضت صوراً لطغيان فرعون وضلالاته وبغيهِ وكُفره.
لقد تكرَّرتْ قصةُ "الفرعون" الذي سرق وعي الناس، وأحالهم إلى قطيع من الدواب ليس لديهم خيار سوى الاتجاه الواحد الذي رسمه لهم، وقد كشفتْ قصتهُ أنَّ أفتك أسلحة الطاغية: بث الرعب في قلوب الناس, فلا يستطِع أحد أن ينتقِد أو يناقش أوْ يفكر بصوت مسموع, فيلجأونَ إلي النفاق والتملُّق!
إنَّ (فرعون) هو مثلٌ لكل طاغية ومتكبِّرٍ جبَّار في أيّ عصرٍ ومصر، وهو نموذج الحاكم المجرم الباغي الذي يجاوز الحد في الظلم والتسلُّط والفجور، والاستخفاف بعقول الناس وإرادتهم، وكلما رأى سكوتهم على ظلمه، وخضوعهم لبغيه؛ ازداد صلفاً وتجبراً، حتى يصل إلى التألُّه!!
* * *
منذ أكثر من عقديْن من الزمان؛ قمتُ بتحليل سيكولوجية الطاغية؛ وذلك في كتاب (شعراء في مواجهة الطغيان)؛ بِدءاً مِن سرقتهِ للشعب، وتدمير روح المواطنين، وإثقالهم بالأعباء، وإشعارهم بالمهانة، وتذكيرهم دوماً بأنه لولا وجوده لحلَّت الكوارثُ بهم والبلايا، وأنه المُنقِذ والواهب والرازق ذو القوة المتين!
فالطغاة يتعاطونَ "أفيون العظمة" بلا توقُّف، ومع كل جُرعة يتعاطوها؛ يستفحل بهم الداء، حتى يسقطوا في مرض الشعور بالقداسة والعصمة ... مِمَّا يجعل الطاغية يتحدث في خُطبِه كالإله الذي يُوحي بأمرهِ ما يشاء!
ومن روعة تشخيص القرآن للطاغيةَ، قوله:﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ ولمْ يقل (وما هداهم)؛ لأنَّ (ما هداهم) تحتمِل أنْ يكون قد هدى غير قومه، أمَّا (ما هدى)؛ ففيه نفي الهداية عن قومه وعن غيرهم. وهذا هو حال الطغاة في كل زمان!
ولا يكفّ "الطاغية" في خطاباته مِن تكرار اسطوانة محاربة الإرهاب والإرهابيين، مع بعض الوعود الكاذبة، الممزوجة بالاستعلاء تارة، وبالتهديد تارة أخرى، كقوله: مَن أنتم .. لن أسكت .. لن أسمح لأحد .. سأضربُ بيد مِن حديد ... إنَّ بطشي لشديد!
نعم؛ لا يجد "الطاغية" مسوِّغاً لبقائه؛ سوى إيجاد خطر محدق ومعركة مفتعلة لا يعلو صوت فوقها، وهذا ما يفعله طغاة العرب؛ فمنهم مَن يزعم أنه يحارب إسرائيل، ومنهم مَن يزعم أنه يحارب الإرهاب! مع أنَّ الحقيقة هيَ أنه لولا وجودهم ما بقيَت "إسرائيل" يوماً واحداً ... فهم الذين قطعوا عنا السبيل إلى الوصول إلى القدس ومسجدها المبارك!
وقد كان "أفلاطون" محقاً عندما ذهب إلي أن ظهور الطاغية مرهون بوجود حالة من الفوضي أوْ التسيُّب في البلاد, بحيث يكون هو "المنقذ" الذي يعيد الأمن, والاستقرار إلي البلاد حتي يشعر كل مواطن أنه امن علي نفسه, وماله!
العجيب؛ أنه سرعان ما يجد الطاغية جيوشاً جرَّارة من العبيد، والمنافقين السفلَة؛ الذين يجتهدون في تمجيده، ووصفه بأوصاف الملائكة، وتمهيد الطرق له، وتعبيد الشعب وتركيعه وتضليله!
ويستثمر "الطغاة" الإعلام استثماراً جيداً؛ لتبييض صفحاتهم القاتمة السواد! فيقوم المنافقون بعمل (بروفات) قبل أيّ احتفالات للزعيم المهيب الركن المشير القائد الملهَم، فيتم تصويره وهو يحمل الأطفال ويصافح الفلاَّحات، باعتباره "أبو الشعب"؛ الذي جاء ليحنو عليه، ويرفع عن كاهلهِ الضرّ والبلوى! وقد أفصح إعلامي رخيص ومُقرّب جداً من أحد الجنرالات المستبدين الحاكمين؛ أنَّ جميع الأعمال الدعائية والأفلام السينمائية والأغاني والقصائد والمجلاَّت؛ يتم إخراجها في مكتبه!
* * *
أخيــــراً؛ لن نتوقف عن مجابهة المستبدين، وسنواصل مسيرتنا على درب الأنبياء والمرسلين؛ الذين واجهوا الطغيان، وسحقوا جيوشه، واقتلعوا عروشه!
فكمْ مِن طغاةٍ على مدار التاريخ، ظنوا مقدرتهم على معاندة سُنَن الله في الكون، فعجَّلوا بزوال عروشهم ... وكانت نهايتهم الحتمية دليلاً على بلاهتهم!
(وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون)؟
وسوم: العدد 835