أمي … إنهم يختطفون شقيقتي
يقولها المسجد الأموي باكياً ، فهو أصبح مثلنا ، لم يعد يملك من الأفعال إلا البكاء ، فأخته التكية السليمانية ينوون طرحها في سوق الإستثمار وتحويلها إلى ساحة مطاعم جديدة ، أما جامعها فيقترح جهابذة الإستثمار أن يصبح مكتبة ، مكتبة لمن ، لا أدري ، ولكن أن يبقى جامعاً فهذا لا يتساوق مع وجود المطاعم حوله ، إنهم يريدون لها أن تصبح ساحة مطاعم أخرى يتعانق ضجيج موسيقاها مع صخب موسيقى آتية من تحت جسر ڤيكتوريا أو من ساحة الكراجات ليؤلفوا جميعاً سيمفونية تدل على مدى التخلف الحضاري الذي وصلت إليه سوريا .
وعندما يقول مُعِدُ ريبورتاج عن التكية السليمانية على إحدى المحطات التي يقولون عنها أنها محطات وطنية ، أن التكية أصبحت قِناً لتربية الدجاج ، فإننا نعذره لأنه لا يعرف أن سرب الإوز هذا ، عمره من عمر هذه التكية ، ولا يعرف أننا وأولادنا وآباءنا وأجدادنا لنا ذاكرة مشتركة مع هاته الإوزات ولا يوجد بيت في دمشق إلا وفيه صور الأجيال المتعاقبة مع هذا السرب . وهو لا يعرف أننا كنا نجمع كسرات الخبز طوال الأسبوع لنرميها لها . وهو لا يعرف أن تلك الأوزات تكاد تعرف كل منا بالإسم بل هي تكاد تعرف شجرة نسب كل عائلة دمشقية .
وهو لا يعرف أيضاً من هذه التكية سوى صورة السيلفي التي التقطها لخطيبته وهما يعبران التكية بإتجاه الكراجات ، وهو لايعرف أننا نذهب إليها لنجلس تحت الليمونة لنرمي في بحرتها كل همومنا .إنه لا يعرف شيئاً .
والتكية السليمانية لمن لا يعرف ، بناها سلطان عثماني إسمه سليمان القانوني ، قالوا لنا أنه وغد محتل ، وياليت كل الأوغاد مثله ، وتقول الرواية أن الظاهر بيبرس كان قد بنى في موقعها القصر الأبلق ولما دخل تيمور لنك دمشق عام ١٤٠٠ نزل فيه وعند إنسحابه منها أمر بهدمه كما أمر بهدم دمشق . وتقول الرواية أيضاً أن السلطان سليمان طلب من المهندس العثماني الأشهر سنان باشا وضع التصاميم لهذه التكية ، واستعمل في بنائها أحجار القصر الأبلق ، وساعده في الإشراف على أعمال البناء المعمار الدمشقي إبن العطار ، وانتهى من بناء القسم الغربي منها عام ١٥٥٩ وانتهى بناء القسم الشرقي منها وهو المدرسة المخصصة لطلاب العلم عام ١٥٦٦.
ولا تستمد التكية السليمانية أهميتها من كونها أنها بناء أثري فقط إرتبط بذاكرة المدينة ، بل أيضاً من كونها ما زالت بناء حياً يتفاعل مع الناس والناس يتفاعلون معه ، وأيضاً لحفاظه على وظيفته التي أُنشئ من أجلها . هذا بالإضافة إلى أن المعمار سنان أدخل الى العمارة الدمشقية مفاهيم ونُسَب معمارية وتزيينات جديدة إتبعها كل من جاء من بعده . أي أنه ترك خلفه مدرسة معمارية جديدة ، وأيضاً كانت التكية أول مدرسة للتعليم في دمشق تضم قسماً داخلياً للطلاب ونفقاتها كلها ونفقات الطلاب تدفعها الدولة من الأوقاف الكبيرة التي حُبِسَت من أجلها ، لأن السلطان سليمان أراد لدمشق أن تصبح مركزاً علمياً متقدماً وأسماها شام شريف . هذا بالإضافة إلى أنه أراد لهذه التكية أن تكون مركزاً لإجتماع الحجاج القادمين من الأناضول والبلقان في أشهر الحج الثلاثة ، ولتصبح هذه البقعة أهم سوق تجاري يستفيد منه أهل الشام ، وجيلنا مازال يعي هذا التجمع ونتذكره جيداً .
فلماذا تستكثرون علينا بقايا أبنية نفتخر بها ولو أن الذي بناها كان وغداً ، فقد ذهب الوغد وبقيت لنا هذه الجنة.
فيا ولدي لا تحزن …. فالأموي لا يبكي
وسوم: العدد 837