معيار صدق الحب أو كذبه
من أكثر المواضيع التي خاض فيها الناس كثيرا قديما وحديثا موضوع الحب الذي لا يخلو إنسان في هذه الحياة رمى فيه بسهم . وبعيدا عن الخوض في تعاريف الفلاسفة والشعراء وغيرهم للحب سنتناوله من زاوية دينية لا للحكم على ما أحل الله منهم وما حرّم بل لمعرفة صدقه من كذبه ، ومن ثم سيحدد هذا المعيار الحلال منه والحرام .
من المعلوم أنه مما لا يتناطح فيه عنزان أو كبشان كما يقال أو ينكره منكر أو يجحده جاحد أو يعترض عليه معترض أن أصدق حب على الإطلاق هو حب الإنسان نفسه بحكم ما أودع فيه خالقه من حب للذات ، وآية صدق هذا الحب أن الإنسان يحب لنفسه اللذة ، ويشفق عليها من العذاب إلا إذا كان مزوخيا وهو لا يقاس عليه .
وعن حب الإنسان نفسه تفرعت كل أنواع الحب بما فيه الحب بين ذكر وأنثى من بني البشر ، وهو الحب الذي شغل الناس، ولا زال، وسيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . ولقد زعمت الأسطورة اليونانية أن الإنسان كان في البداية مخلوقا مكونا من ذكر وأنثى ملتصقين ، فارتكبا خطيئة فعاقبتهما الآلهة بفصلهما عن بعضهما، فظل كل طرف يحن إلى الآخر ، ولا يحب ذكر أنثى أو العكس إلا إذا ناسب أحدهما الآخر أو بتعبير آخر إذا عثر أحدهما على شقه الذي فصل عنه عقابا من الآلهة على حد زعم أسطورة يونان . وإذا ما سلمنا بهذا الزعم يعلم الله وحده كم نسبة الخطأ الواقع في الحب بين الذكور والإناث في هذه الحياة الدنيا خصوصا حين تجمع بينهما علاقة زواج ينغصها فيما بعد سوء التفاهم ، ويتبين أن ما كان بينهما من حب مزعوم لم يكن كذلك ، وإنما كان مجرد توهم منهما ، ويترتب عن هذا أن كل من فرقهم الطلاق بعد زواج زعموا أنه أسس على حب إنما كان ذلك وهما منهم .
وإذا كان تفسير الحب في أسطورة يونان كما ذكرنا ، فإن شأنه في الإسلام شأن آخر ، ذلك أن الإسلام يقر بأن أصدق حب هو حب الإنسان نفسه ، وبهذا الحب يقيس صدق وحب كل نوع من أنواع الحب ، ومما يؤكد هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، ففي هذا الحديث الشريف ما يؤكد أن أصدق حب هو حب الإنسان نفسه أو ذاته ، وهو ما لا ينكره إلا جاحد أو مكابر . والحديث يشترط في صحة الإيمان، وهو أصدق علاقة بين الخالق سبحانه والمخلوق ، وهي أرقى علاقة يبرمها المخلوق في حياته على الإطلاق أن يكون حب الإنسان لغيره في درجة حبه لنفسه . وكلمة أخ في الحديث تدل على الغير سواء كان أخا في الإنسانية بحكم التقائه مع غيره في الانتساب إلى أول رجل وهو آدم ، وأولى امرأة وهي حواء أو أخا في الإسلام بحكم الاشتراك مع غيره في علاقة الإيمان ، وهي أصح علاقة بين البشر حيث يجعلهم الإيمان يلتقون عند خالق واحد جل في علاه .
وليس من السهل ولا اليسير أن يحب الإنسان غيره كحبه نفسه مهما اجتهد ومهما حاول لما أودع فيه الله عز وجل من نرجسية مفرطة لا مفر منها . ولتأكيد هذا المطلب العسير نستشهد بقول الله تعالى : (( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ))، لقد ذكر الله عز وجل في هذا النص القرآني الأقارب ومن المفروض أن تكون بينهم علاقة حب ، بل ربما زعم كل واحد منهم أنه يحب الآخرين كحب نفسه إلا أن هذا الزعم ينهار حين يشتد الهول يوم القيامة ، فيغلب حب النفس كل حب آخر مزعوم .
وقد يزعم في الحياة الدنيا البعض أنهم يحبون بعضهم كحب أنفسهم ما دام لا يحدث في هذه الحياة الدنيا من الهول ما يدحض زعمهم كما أخبر الله عز وجل في محكم التنزيل . وكثيرا ما يحدث في الحياة الدنيا من الأحداث ما لا يتعلق بغبار هول الآخرة ،فيتبرأ مدعي الحب الذي يزعم أنه يحب غيره كحب نفسه ممن يحب، لأن كفة حب نفسه تكون هي الراحجة.
وإذا كان من معنى لترتيب الله عز وجل من يفر منهم المرء يوم القيامة ، فإن حب الأخ ليس وراءه مصلحة، فهو حب بريء إلى حد ما ، بينما حب الأم والأب وراءه مصلحة فإليهما يعود الفضل بعد الله عز وجل في وجود الإنسان ، ويأتي حب الصاحبة ووراءه مصلحة أيضا ،وهي ما يجده المرء من سكينة ومودة ورحمة ، ولذة أيضا ولا نتردد في قول ذلك ، وكل ذلك مما تحبه النفس ، وحين يزعم أحد الزوجين أنه يحب الآخر ، فهو في الحقيقة إنما يحب مصالحه لحب نفسه ، وبعد حب الصاحبة يأتي حب البنين والبنات ووراءه مصلحة أيضا، ذلك أن المرء يرى فيهم استمرار وجوده واستمرار ذاته التي يحبها أصدق حب .وإذا كانت هذه هي الحال مع الأقارب ، فكيف تكون مع الأباعد ؟
وعلينا أن نتصور حجم الزيف والكذب في الحب بين المتحابين ولمّا يحصل بينهم ما يمحص صدق أو كذب ما يزعمون من حب بينهم .وقد تحصل أحيانا بين المدعين الحب فيما بينهم خلافات بسيطة لا ترقى إلى هول يوم القيامة، فيسقط القناع عن زيف وكذب الحب الذي يدعونه . ونذكر على وجه التمثيل لا الحصر ادعاء الأزواج حب بعضهم البعض ، وقد اخترنا هؤلاء لأنهم أكثر من غيرهم إكثارا من التعبير عن حب بعضهم البعض ، ذلك الحب المزعوم الذي يبدأ لينتهي بعلاقة زواج وبنين وبنات، ثم يحصل في الحياة الزوجية سوء تفاهم فتنطلق من لا شعور الأزواج المشاعر العدوانية المتوحشة والمفندة والمكذبة للحب المزعوم . ومن المثير للسخرية أنه بعد سوء علاقة بينهم، وسقوط قناع الحب المزعوم وعودة المياه إلى مجاريها كما يقال بعد صلح أو تفاهم يعودون مرة أخرى يزعمون أنهم يحبون بعضهم ، ويسمون ما وقع بينهم سحابة صيف ، ومعلوم أنها سحابة كاذبة ليست كسحابة شتاء صادقة ، ولا يختلف حبهم أيضا في كذبه عن كذب سحابة صيف .
ويبدأ انكشاف زيف حب الأزواج منذ يوم الزفاف حيث تذهب الزوجة إلى أبعد حد في التعبير عن حب ذاتها وهي تزعم مبالغة أو كاذبة أنها تحب زوجها كحب نفسها بل تزعم أحيانا أنها تحبه أكثر من حب ذاتها ، وواقع الحال أنها تكلفه ما لا يطيق من صداق وحلي وجهاز... ، وتبذر ماله في أمور تافهة كالمال الذي تحصل عليه من تسمى " النكّافة " وبالمناسبة هذه كلمة عربية ،ذلك أن النقّاف والنقّافة هما من كانا لهما تدبير ونظر ، و"النكّافة " تجيد تدبير تزيين العرائس ولها نظر في ذلك ، وتبذر ماله أيضا في غير ذلك من توافه الأمور، وهوعليه شاقّ لا تحبه نفسه وهو يؤلمها ، ولا تحب هي الأخرى ما يكلف ذلك من خسارة لنفسها ، ومع ذلك لا تستحيي من أن تزعم كاذبة أنها تحب زوجها كحب نفسها أو أكثر غفر الله لها وله . وكمثال مقابل قد يزعم الزوج حب زوجته كحب نفسه وهو كاذب أو مخادع إنما يحب لنفسه ما بيدها من ثروة أو مصلحة أو غير ذلك مما يستفيد منه ، وهو ما لا يرضاه من غيره إن علم أنه إنما يكذب حين يزعم أن حبه كحب نفسه أو أكثر .
وكم من زوج محب لنفسه إلى درجة النرجسية والأنانية المزمنتين زعم حب زوجته كحب نفسه، فتبين كذب حبه المزعوم حين قضى وطره وأصاب مبتغاه من مال أو عقار أو هوية أو إقامة بالخارج أو وظيفة أو رتبة ...إلخ، فانفصل عنها وهي التي كان يصفها بحدقة العين وتعجبني تسميتها بالعامية " مومو العين " وإخواننا في المشرق وتحديدا في الشام يخاطب بعضهم بعضا تعبيرا عن الحب بقولهم : "أيوا يا عين " ، والإنسان أشد حبا لعينه التي يبصر بها ، وهي من حب النفس إلا أنه حين يكذب في التعبير عن حب غيره يصف حبه له بحب عينه .
وهذا الذي قلناه لا ينفي وجود حب حقيقي حيث يحب الإنسان غيره كحب نفسه والدليل على ذلك قول الله عز وجل : (( الأخلاء يومئذ يعضهم لبعض عدو إلا المتقين ))، وهذا النص القرآني يؤكد النص السابق، نص فرار الإنسان من الأخ والأم والأب والصاحبة والبنين ، وهم من الأخلاء ، والخلة هي إخلاص في الحب ، فإذا صار الأخلاء يوم القيامة أعداء ، فكيف يكون غيرهم ممن لا خلة بينهم ؟ ومع ذلك استثنى الله عز وجل المتقين الذين لا تفسد خلتهم لأنهم جمعتهم تقوى الله عز وجل ، وأحب كل منهم الآخر كحب نفسه لبلوغ درجة الإيمان الحقيقي . ولقد أثر عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه قال : " ما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل " .
وأخيرا نقول إذا صح إيمان المرء أحب لغيره ما يحب لنفسه أو أحب غيره كحب نفسه ، وإذا صدق حبه دام واتصل ذلك الحب ، وإذا كذب انقطع وانفصل حبه ، ونرجو أن يراجع كل مدع حب غيره ما يدعيه على ضوء قول الله تعالى ، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأصدق حب ما كان لله تعالى وفيه ،وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله رجلان تحابا في الله ،فاجتمعا عليه، وتفرقا عليه .
وندعو جميعا من يدعي حبنا أن يصدق فيه ، ويقيسه على حب نفسه قبل أن يصرح به ، فإن رجحت كفة حبه لنا على كفة حبه لنفسه كان صادق الحب ، وكان حبه لنا لله وفي الله ، وكتب له الله عز وجل الدوام وإلا كان مجرد متوهم أو مبالغ أو كاذب فيما يزعم . ولقد مر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بامتحان يوم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ذات يوم ، فقال له عمر : ( يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي ،فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك ، فقال عمر : " فإنه الآن والله لأنت أحبّ إلي من نفسي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الآن يا عمر ). لقد كان الفاروق أصدق الناس حين صدق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزعم أنه كان يحبه أكثر من نفسه ، وصدق معه حين صرح له أنه يحبه أكثر من نفسه ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الآن يا عمر ) تصديق له فيما قال لأن حجب الغيب كانت تكشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كذب عمر في حبّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وحاشاه ـ لما خفي أمره عن سيد المرسلين، ولأخبره عالم السر وأخفى بذلك بذلك لأنه لا ينطق عن الهوى .
اللهم اجعل حبنا لمن نصرح لهم به صادقا خالصا لوجهك الكريم ، ونعوذ بك من كل حب كاذب نخدع به غيرنا .
وسوم: العدد 838