ميناء "غوادر" والصراع الاقتصادي في بحر العرب، وتأثيره على أمن المنطقة
لابد من تعريف القارئ بأهمية ميناء "غوادر" الباكستاني الذي يقع جنوب غربي البلاد ويطلّ على بحر العرب على مقربة من مضيق هرمز الذي تعبر منه ثلث تجارة النفط العالمية. كان ميناء غوادر" في السابق تحت سيطرة سلطنة عُمان منذ عام 1779 لكنه أصبح ملكًا لباكستان مع حلول عام 1958 وظلّ الميناء معطّلًا حتى عام 2002 قبل بدء باكستان تشغيله مستفيدة من عمق مياهه وصلاحيته لاستقبال السفن الكبيرة.
تعود العلاقات بين الصين، وباكستان إلى السنوات الأولى من تأسيس باكستان في سنة 1947، وقد شهدت هذه العلاقات منذ ذلك التاريخ تطورات مهمّة، في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، حيث تقدّم الصين دعما كبيرًا لتطوير ميناء "غوادر" الواقع على مياه دافئة عميقة عند نقطة التقاء بحر العرب، وخليج عمان. وفي ظلّ مشروع الممرّ الاقتصادي الصيني الباكستاني الطموح الذي تقدّر تكلفته بـ 46 مليار دولار، وفي عام 2015 استأجرت الصين ميناء "غوادر" لمدة 40 عامًا في اتفاقية ثنائية مع باكستان. ويعتبر الممر بمثابة بوابة اقتصادية تمتد لمسافة 3000 كم، تبدأ من إقليم سنغان الصيني الذي يعاني من بعض الاضطرابات والقلاقل، مرورًا بباكستان وصولًا إلى الشرق الأوسط. ويعتبر هذا الممر طريقًا مختصرًا للوصول إلى المحيط الهندي دون الحاجة للمرور عبر مضيق ملقا الاستراتيجي والمكتظّ بالحركة البحرية.
تكمن أهمية هذا الميناء؛ بكونه أقرب إلى الصين من الصين نفسها! فهو أقرب لتجارة إقليم شينجيانغ الصيني من الموانئ الصينية الشرقية، لذلك ستعبر تجارة الصين برّا عبر باكستان حتى تصل إلى "غوادر" ومن هناك إلى بقية دول الخليج والشرق الأوسط.
وفي عام 2016 تحوّل الحلم إلى حقيقة فقد شحنت الصين أولى بضائعها باتجاه "غوادر" لتقطع مسافة 3 آلاف كم من إقليم شينجيانج في شمالي غربي الصين إلى "غوادر" في أقصى غرب باكستان على خليج عمان.
يتميّز موقع ميناء غوادر بما يلي:
موقعه الاستراتيجي جنوب غرب باكستان، حيث يطلّ على بحر العرب بالقرب من مضيق هرمز الذي تعبر منه ثلث تجارة النفط العالمية، والذي تسيطر عليه حاليًا الإمارات من خلال ميناء دبي. يساعد موقع الميناء في تقليل الوقت والمال على الرحلات التجارية، ويعدّ موقع الميناء ذا أهمية استراتيجية أخرى لوقوعه بين جنوب آسيا والشرق الأوسط. كما يمثل جزءًا هامًا من طريق الحرير القديم الذي يربط الصين مع أوروبا وآسيا وإفريقيا.
أهمية الميناء للصين:
تعتمد الصين بشدة على نفط الخليج العربي، فقرابة 70 % في المائة من وارداتها النفطية تأتي من هذه المنطقة عن طريق سفن تضطر لقطع مسافة 16 ألف كيلومتر حتى تصل إلى الميناء التجاري الوحيد لدى الصين في شنغهاي. ويستغرق الأمر قرابة ثلاثة أشهر كي يتمّ نقل النفط من خليج عمان عبر المحيطين الهندي، والهادي إليها!!
أما غوادر فسيساعد الصين على تقليص فترة الممرّ في تقليل الوقت المستغرق لنقل البضائع من ميناء غوادر إلى غربي الصين وأيضا إلى مناطق آسيا الوسطى بنسبة تبلغ حوالي 60 أو 70%، مع ضمان ممر آمن في الوقت ذاته، وتدفق مستمر للنفط من الخليج العربي في مختلف الظروف المناخية على مدار العام.
وأن جوادر سييسر أمام الصين استخدام الطريق نفسه في الاتجاه المعاكس لتصدير سلعها إلى الشرق الأوسط وباقي دول العالم في إطار مبادرة «طريق الحرير للقرن الـ 21» التي أعلنتها. وعليه، تتحمل بكين قرابة 80 % من تكلفة بناء الميناء.
تقدّر تكلفة الاستثمار السنوي في المشروع الصيني بنحو 150 مليار دولار سنويًا؛ حيث ينقسم المشروع إلى حزام برّي، وطريق بحري ويقع "جوادر" ضمن خطة الحزام البري الذي يتكون من 6 طرق رئيسة أشهرها طريق قطار لندن الذي يقطع 18 ألف كيلومتر ويمر بتسع دول: (الصين، كازاخستان، روسيا، بلاروسيا، بولندا، ألمانيا، بلجيكا، بريطانيا، وفرنسا).
وقد قامت كل من بكين وإسلام آباد بتحديد مشاريع تصل تكلفتها إلى حوالي 12 بليون دولار أمريكي للاستثمارات الصينية في باكستان والتي من ضمنها:
مطار إسلام آباد الدولي مصفاة لتكرير النفط في جوادر مشروع بونجي للطاقة الهيدروليكية مشروع نيلم – جهلم للطاقة الهيدروليكية
الأبعاد الاستراتيجية لمشروع الممر الاقتصادي الباكستاني الصيني:
إن العدد الهائل من البشر الذين يخدمهم المشروع يُظهر بوضوح أهميته؛ فقد قال رئيس جمهورية باكستان "حسين ممنون": إن ما يقرب من ثلاث مليارات من الناس سيستفيدون من المشروع.
أما أهميته الاستراتيجية، والجيوسياسية في المنطقة فيمكن بيانها حسب التالي:
تطوّر اقتصادي ونسبة نمو مرتفعة تجعل من باكستان نمرًا اقتصاديا آسيويا خلال سنوات. سوف تكون باكستان بؤرة ومركزا اقتصاديا لأنها محاطة بدول عديدة لا تملك منافذ بحرية مثل أفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى. منطقة المشروع منطقة صراع قوميات، وأديان، ومذاهب، لذا فالمشروع يساهم في تخفيف الصراع، ويهيئ فرصًا للعيش بسلام واقتسام الفرص. ازدهار اقتصاد باكستان يؤدي بالتالي إلى استقرار سياسي في البلد، كما أن انشغال الشعب الباكستاني في قضايا التنمية والمشاريع يبعد شبح التطرف الذي تعتبر البطالة أحد أسبابه. المشروع ضربة قوية للنفوذ الأمريكي في المنطقة ونقلة قوية للنفوذ الصيني الذي بدأ يملأ الفراغ الأمريكي ولكن ليس على شكل صراع عسكري كما يفعل الكاوبوي الأمريكي، وإنما غزو اقتصادي ناعم. نقل مركز الخدمات وتجارة إعادة التصدير من دبي وسنغافورة إلى ميناء جوادر لقربها من خطوط استيراد وتصدير البضائع وخطوط السفن، كما يمكن أن يجعل من إنشاء خط غاز باكستاني قطري وربط الصين به في المستقبل حقيقة ممكنة التطبيق. هذا المشروع سوف يعجل من حيازة الصين وتربعها على عرش أكبر قوة اقتصادية عالمية والتي يتوقع أن تبلغه قريبا.
الصراع الاقتصادي وأثره على أمن المنطقة.
المصالح الصينية لا تقل أهمية عن المصالح والدوافع الباكستانية. بل إنها تكتسب أبعاداً عالمية تتجاوز العلاقات الباكستانية الصينية. ويمكن القول: إن هناك أهدافا رئيسة وراء التعاون (الصيني، الباكستاني) له علاقة مباشرة في الصراع في بحر العرب والمحيط الهندي وهي:
فيما يتعلق بوجود سياسة صينية استباقية لإجهاض أي سياسات أمريكية تسعى لحظر النفط عن الصين مستقبلاً في حالة نشوب أي شكل من أشكال الصراع بين الجانبين. فيما يتعلق بالتنافس الصيني الهندي. وتأتي أهمية التعاون العسكري الصيني الباكستاني في هذا الإطار، وتأمين الصين لجزء مهم من الطلب الباكستاني على السلاح، بما يحقق الحفاظ على الجبهة الباكستانية كجبهة صراع خارجية أساسية بالنسبة للهند.
اتخذ هذا الصراع الشكل الاقتصادي خلال هذه المرحلة واتضح من خلال ميناء جوادر، حيث يزداد الصراع الإقليمي على الميناء بوقوف الولايات المتحدة في صفّ الهند والإمارات فيما تدخل غريمها الروسي ليدعم كلًا من الصين وباكستان وقطر، ما يشير إلى أنَّ المسألة أصبحت صراعًا دوليًا على النفوذ والسيطرة في بحر العرب. في حين أن الخطوات الصينية الباكستانية القطرية تقوم على صياغة أجندة اقتصادية جديدة للمنطقة على أساس الاقتصاد الجيولوجي لميناء جوادر، وفي الوقت نفسه تعمل الإمارات والهند على إفشال هذا المشروع وعرقلته من خلال ممارسة ضغوط على الولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية للاستثمار في دبي وعدم توجيه استثماراتهم إلى "جوادر".
إن نجاح الصين، وباكستان، وقطر، في إطلاق هذا المشروع يحوّل الصراع بين باكستان والهند إلى نقطة النجاح الأولى، كما يعدّ امتدادًا إضافيًا للنفوذ الروسي في آسيا الوسطى لتتقدم هي الأخرى على غريمها الأمريكي، والمشروع يعني أيضًا انتهاء حتميًا لدور دبي المعهود كمركز تجاري عالمي في غضون 10 سنوات ولن يكون بذلك محطة بحرية خاسرة للإمارات في حرب موانئها فحسب، بل سيكون بديلًا عن دبي نفسها.
يعتقد العديد من المحللين الاقتصاديين أن مدينة جوادر الباكستانية هي دبي أخرى تنشأ على خريطة العالم. والمسألة المثيرة للجدل هنا هي أن قوة جوادر اقتصاديا تهدد التأثير الاستراتيجي لدبي في المنطقة. وقد تسببت هذه النقطة الحرجة، في الآونة الأخيرة، في حرب اقتصادية صامتة في خليج عمان بين مجموعتين من البلدان، باكستان والصين وقطر من جهة، وأمريكا والهند والإمارات العربية المتحدة من جهة أخرى، وما أزمة اقليم كشمير الآن إلا واحدة من تجليات هذا الصراع.
حيث يعد ميناء جوادر منافسا خطيرا لدبي. ويمتلك ميناء جوادر موقعا استراتيجيا يمنح الصين ووسط آسيا إمكانية الوصول إلى منطقة الخليج والشرق الأوسط. وسوف يصبح ميناء جوادر البوابة الرئيسية البحرية لآسيا الوسطى. كما سيصبح من الأسهل إرسال منتجات من إقليم شينجيانغ ودول آسيا الوسطى إلى مناطق أخرى.
وتعد الهند لاعبًا رئيسا آخر في هذه المعركة الإقليمية، حيث يعد ميناء تشابهار الهندي خصمًا آخر، حيث يبتعد بمسافة تقترب من نحو 168كم عن الميناء الباكستاني. وقد حاولت كل من الهند وباكستان تقويض بعضهما البعض في المنطقة، ولابد أن يضيف تطوير الموانئ إلى هذا العداء، وينبغي أيضا أن ينظر إلى علاقات أمريكا مع الهند في هذا السياق. وتؤكد الاتفاقيات الأخيرة الموقعة بين الولايات المتحدة والهند حقيقة تشكيل صعود الصين تهديدا لتوازن القوى الإقليمي. وكذلك تشعر الولايات المتحدة بالقلق إزاء صعود القوة الاقتصادية الصينية في المنطقة.
سيسبب الميناء في أزمة كبيرة لدبي بعد أن وضعت استثماراتها في البنية التحتية لتتحول إلى مركز عالمي للأعمال والتجارة والسياحة وبذلك تلافت مشكلة نقص مواردها الطبيعية وأصبح اقتصادها يعتمد على الخدمات بشكل رئيسي بفضل موانئها الضخمة بدرجة كبيرة مثل ميناء راشد وميناء جبل على. وطالما أن السفن تمر من دبي فدبي بخير لكن ماذا لو تحولت الوجهة مع إلى ميناء جوادر؟ هنا ستكون بمثابة الكارثة للإمارات، لذلك حاولت الإمارات إيقاف هذا المشروع الصيني الباكستاني كثيرًا باتباع طرق مختلفة:
دعم المعارضة الباكستانية للإطاحة برئيس الوزراء نواز شريف، وهذا ما حدث بالفعل في يوليو 2017 بعد أن لحقت به اتهامات فساد عبر وثائق مصدرها الإمارات. عبر نسج تحالفات إقليمية ضدّ المشروع الباكستاني كالتحالف مع الهند العدو التقليدي لباكستان والتي زار رئيس وزرائها "نارندرا مودي" دولة الإمارات في العام نفسه توقيع اتفاقية "جوادر" الباكستانية الصينية وكانت تلك الزيارة الأولى لرئيس وزراء هندي منذ 37 عاما.
كما يمكن قراءة احتلال الإمارات للجزر اليمنية الواقعة في خليج عدن ضمن السياق نفسه، على اعتبار أنّ ميناء "جوادر" يقع على بحر العرب، والمشروع يعتمد الوصول إلى المتوسط عبر البحر الأحمر؛ فإن السيطرة على الجزر اليمنية من شأنه وضع الملاحة البحرية في بحر العرب، وخليج عدن، ومضيق باب المندب، تحت سيطرة الإمارات، وبالتالي فمن السهل تعطيل عمل الميناء فيما لو نشب أي صراع في المنطقة، أو حصلت أي اضطرابات. كما يمكن اعتبار ما قامت به الإمارات بالتعاون مع دول الحصار ضدّ "قطر" أحد مفردات ردّ الفعل الإماراتي على تأييد دولة قطر لهذا المشروع.
إيران أيضا تخشى "جوادر" لذلك حاولت تخريب هذا المشروع بتعجيل تطوير ميناء تشابهار الذي يبتعد 168 كم فقط عن منافسه الباكستاني وقامت بتسليمه للهند بشكل كامل ضمن خطة ستكلف الهند 500 مليون دولار أمريكي.
وبما أن الصراع أضحى إقليميا بامتياز ويؤكد قرب تغيير قواعد اللعبة في المنطقة بأسرها جاء دور "قطر" للدخول على خط "جوادر" معلنة استعدادها لدفع 15% من إجمالي كلفة بناء الممرّ الصيني الباكستاني وتطويره لتنتقل بذلك تجليات أزمة الخليج القريبة إلى الضفة البعيدة على ساحل باكستان.
"جوادر" ليس قضية صراع إقليمي فحسب، فالولايات المتحدة تقف في صف الهند، والإمارات بينما تتدخل روسيا لدعم ضفة الصين، وباكستان ما يعني أن المسألة أصبحت مسألة صراع دولي على النفوذ والسيطرة، وسيتحول بحر العرب الى مسرح للصراع البحري.
إن نجاح الصين، وباكستان، وقطر في "جوادر" الباكستاني لا يعني فقط نقطة إيجابية لباكستان في صراعها التاريخي مع الهند، وامتدادا إضافيا لنفوذ روسيا المتصاعد في أسيا الوسطى، ومحطة متقدمة للصين نحو منطقة الخليج والشرق الأوسط، بل يعني أيضا انتهاء حتميا لدور دبي المعهود كمركز للتجارة العالمية.
وهكذا من خلال تحليل ما ورد آنفا، يمكن النظر إلى العلاقات الصينية مع باكستان بأبعادها المختلفة باعتبارها من ناحية أولى جزءاً من سياسة التنافس التقليدي القائمة مع الهند، ومن ناحية ثانية جزءاً من تجهيز المسرح البحري لحرب محتملة مع الولايات المتحدة على خلفية الصراع على مصادر الطاقة بشكل عام، ومصادر الطاقة في الشرق الأوسط بشكل خاص. ومن ناحية ثالثة، جزءاً من سياسة صينية للتعامل مع الاستراتيجية الأمريكية لاحتواء الصعود الصيني.
وسوم: العدد 840