سياحة بلا راحة
"لا تتم فائدة الانتقال من بلد إلى بلد إلا إذا انتقلت النفسُ من شعور إلى شعور، فإذا سافر معك الهمّ فأنت مقيم لم تَبرح"،كذلك قال الرافعي. ومن تمام الأسى ألا يفارقك الهمّ وأنت في سياحة، وكذلك الحال في المغرب. فقد يقودك الشغف إلى أن تسلك بسيارتك تلك المنعرجات الوعرة لرؤية مغارة فريواطو، ثم يَفجؤك الخبر أن تجدَ المغارةَ مغلقة وأنه لا زيارة، فيكون عليك أن تعود أدراجك بخفّي حنين. عشرون كيلومترا في طريق العودة كافية لأن تؤنسك هواجسُ تترى: أمِن العسير أن تُنصب لوحة عند السفح تنبّه إلى أن المغارة مغلقة؟ أما كان حَريّا أن يُبلَّغ المواطن؟ أليس ذلك ممّا يعنيه؟ ولماذا أُغلقت المغارة؟ ومتى تفتح؟ ثم يقطع شرودَك لوحة تقول: "منعرج خطير!"، لكنها لم تقل لِمَ لمْ توضع الحواجز على حافة الطريق؟ ولمَ لمْ تُصلَح الطريق وتُوسَّع؟ وأغرب اللوحات تلك التي تقول: "انتباه! تساقُط الأحجار!"، وليت شعري، ما المطلوب من السائق؟ فهَبْ أنه في قمة الانتباه واليقظة، فما يفعل إزاءَ صخور يمكن أن تتهاوى في أي حين؟ وإنك لتراها قاب قوسين أو أدنى من السقوط. لكنه القضاء والقدر حين تقع الفاجعة! أما المرافق الصحية فآخر ما يشغل بال القائمين على شؤون السياحة في هذا البلد. ربما يظن المسؤولون أن الغابات والمناطق الجبلية كلها مراحيض عمومية!
قد تحدثك نفسك وأنت في "ضاية عوا" أن تتناول شيئا فريدا من منتجات المنطقة، فلا تجد غير مشروبات غازية في دكان حقير. ربما وددتَ أن تستمرئ شيئا صنعته أنامل القاطنين فلا ترى غير حلويات ومثلجات. قد تشتهي جُبنا أو "دشيشة بلبن" حين ترى الماعز يرعى ثم تعجب كيف وصلتْ كوكا كولا و"سنيكرز" إلى هذا المكان النائي وغاب الشاي واللبن والعسل! وربما غاب الذوق ومعه المروءة حتى ترى المساكن الفاخرة والقصور زاحفة تجتث الشجر والحجر وتمسخ البهاء. كذلكم الشأن في عروس الشمال، فمِن منتزه الرميلات إلى مغارة هرقل تئنّ الطبيعة العذراء مما أصابها من شوَه. فإذا ما ولّيتَ وجهك تلقاء الأحياء العشوائية ألفيْتَ طنجة تُنكر نفسها.
الجشع والطمع وجه آخر من أوجه السياحة بالمغرب، حتى إنك لا تكاد تَميز بعض التجار من قطاع الطرق. فلا تعجبْ إذا ما اقتنيتَ قنينة ماء صغيرة بعشرة دراهم وأنت تهمّ بولوج مدينة "وليلي"! وأعجبُ من ذلك أن تفوق تذكرةُ زيارة الأجنبي تذكرةَ المغربي بسبعة أضعاف! ربما كان ما يراه الأجنبي غير ما يراه المغربي؟ أم تُرى المغربي يُحدّق أقل مما يحدّق الأجنبي؟ ورُبّ احتيال هو عُملةُ بعض تجار الزرابي والخزف والتّحف في المدينة الحمراء، فلا يكون ثمة غير انتهاز الفرص واستغفال الأغرار. وحيثما ركنتَ سيارتك بالبلد السعيد يَفجؤك حارس سيارات، حتى صار البلد كله مرأبا (parking). لكنه مرأب لا يضمن لك أن تجد سيارتك سليمة غير منقوصة حيث ركنتَها، فإذا ما اختفت السيارة بغتة فلا ريب أن الحارس سيختفي حتما.
ولا تخلو السياحة المغربية من الخرافة والشعوذة، وأكثر ما يُرى ذلك عند أضرحة "الأولياء". ولقد قالوا "إذا كان المشرق بلد الأنبياء فالمغرب بلد الأولياء". نعم، لا تخلو مدينة أو قرية مغربية من ضريحِ "ولي صالح" يُتبرّك به. وليس يهمّ أن يكون الولي إنسيا أو حيوانا أو شيئا غير ذلك، المهم أن يكون هنالك ضريح تُقضى عنده الحاجات. أما من يبتغي الشعوذة والدجل والخرافة في أنصع صورها فما عليه إلا أن يشد الرّحال إلى موسم "الشيخ الكامل" بمكناس، فثمة "الجذبة" وأكل اللحم النِّيءِ والهستيريا الجماعية والتقرب بالذبائح لغير الله. وغير بعيد عن مدينة الزيتون يَفِد الزوار إلى ضريح إدريس الأول بزرهون. وأول ما يلفت انتباه السائح لوحة على الحائط كتُب عليها بلسان فولتير: "يُمنع غير المسلمين من الدخول". ولست أدري ما المانع من دخولهم! فلا كنوز هنالك يُخشى أن تُسرق، ولا علمَ يُذاع، ولا حكمةَ تُهتبَل. وإنما جحافل من المتسولين والتعساء، وجمعٌ من المحتالين باسم "الولي الصالح". للمكان قداسته وهيبته، فعلى من يَطؤه أن ينحني لِيعبُر من تحت الخشبة التي تقطع الطريق. وللأولياء قصص وحكايات لا يحصيها شَغوفٌ ذو فراغ، فما ظنّك بسائح عابر؟!
خواطر تلاحقك أيها السائح! لكنّ أسوأ ما يُؤرق وأنت تجوب البلد أن ترى الأقذار تُوشِّح المعالم التاريخية، فلا تَسلم أسوارُ المدن القديمة وأبوابها من الأوساخ والمخلفات البشرية، ولا ينجو موقع أثري أو نصب تذكاري من التخريب والتدنيس. وكأن ثمة اتفاقا سريا على ضرورة التخريب أو ضميرا جمعيا يعادي التاريخ والجغرافيا، بل ويكره الجمال والصفاء.
تلك سياحة في بلدٍ للجهل فيه صولات وجولات، ولقبيحِ الأفعال حضن ومرتع. وفي انتظار أن تتبدّل الأحوال، سيظل المتفائلون يترقّبون الزمن الذي تغدو فيه السياحة راحة.
وسوم: العدد 842