عندما تصفو النفوس ...
صِدْقُ ( الإنسان المسلم ) مع ذاته يؤهله للصدق مع خالقه سبحانه ، فتشرئب روحُه دائما إليه جلَّ وعلا ، وتتعلقُ آمالُه به في السراء والضراء ، ويجدُ الأمنَ والسكينةَ مهما ادلهمت في وجهه النوازل ، ويؤمن بأن الفرج قريب منه ، ويكون بهذا الشعور الفياض بالإيمان ... إنسانا عظيما ، لايتقاعس ولا يتراخى ، ولا يصيبه يأس أو فتور . لأن هذا الصدق إشراقة النفس المطمئنة التي تشعره بمعية الله لها ، فهو يستمد هذه الإشراقة من الموطن الأول للإنسان ، يقول عزَّ وجلَّ : (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) 172 /الأعراف . ساعةَ أخذ الله العهد والميثاق من بني آدم ، يوم أخرج من صلبِ آدم عليه السلام ذريتَه وأشهدهم على ربوبيته ، كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما . وفي حديث آخر له عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها ( وإذ أخذ ربك من بني آدم ... ) ، فقال : ( إن الله خلق آدم عليه السلام ، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره ، فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ) فقال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخل به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار ) . رواه أبو داود والترمذي والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن حبان في صحيحه
وحين يشعر الإنسان بحنين في قلبه يشده إلى ( المجهول ) فإنما هو ذلك الأثر الروحاني الذي تهفو إليه نفس المسلم من حيث لايشعر ، فالمسلم هنا يطمئن ، ويبتسم للحياة التي يعيشها في هذه الحياة الدنيا مهما كانت أوضاعه فيها . ويجعل من نهار رمضائها جناتٍ وبساتين ، ومن لياليها المظلمة آفاقا مشرقةً تتأرج فيها نسائمُ الرحمة والرضوان ، لأن سعادته الأبدية ليست في هذه الدنيا التي استعبدت الكثير من بني آدم ، وإنما في دار الخلد عند مليك مقتدر ، فعاش الحياة موحدا لله عابدا له مقبلا عليه ، لايعبأ بطاغوت ولا يخشى من جبَّار ، ولا تغريه زينةٌ ولا يعميه بهرجٌ ، وهو مؤمن بأن طريقه هذا لن يوصله إلى الندم العقيم يوم نهاية هذه الدنيا ، وبداية دنيا الخلود . فعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء ، أكنت مفتديا به ؟ ) قال : فيقول : نعم ، قال : (فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي شيئا ) متفق عليه . تلك نهاية مَن أنكر الميثاق الأول ، وسخَّر نفسه للشيطان ، فالإنسان يوم القيامة لايملك إلا عمله ونواياه ، فليس يوم القيامة ... لرجلٍ كان قوي جسد ، أو غني مال ، أو فرعون قوم ، وإنما هو يوم الأعمال والنيات ، لقد مضت أيام الاختبار والابتلاء ، التي محَّص الله فيها الخلقَ ، فمَن شكر الله وأفرده بالعبادة فاز ، ومَن كفر ولم يرض بحكم الله خسر وخاب ، وذلك بعلم الله وهو العليم الخبير . لقد أنزل الله القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك الذي فرضَ صومَه لتصفو النفس البشرية وتنقاد لأوامر الله ولهدي نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، وفي الدنيا هذا الاختبار والابتلاء ، فمَن وعى وادَّكر وعدَ ربه كان من المؤمنين الأبرار ، ومَن ضلَّ وأنساه الشيطان كان من الكفار الفجار ، يقول الله سبحانه وتعالى : (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصير ). هذا المشاقق نوى وأصر واختار هذا السبيل ، ونقض العهد فاستحق الخلود الأبدي لأنه أشرك بربه ، ولم يرَ ضرورة للتوبة التي تغيِّر مجرى هذا الطريق ، فسلطانُه : هواه وشيطانه ، وسخر إرادته الحرة لخدمة شهوته ، واتباع قرينه من شياطين الإنس والجن . فلم يكن له من أمل يغريه بما لدى الله من مكان عال في فردوسه ، والأمل عند المؤمن ليس وهما ، وإنما هو النور الذي يشق ظلمة الأكدار والضيق ، بل وظلم الظالمين العام والخاص ، ليفتح أبواب الحقيقة الزهراء وراء هذه الحياة . وهكذا ينظر المسلم إلى أبعد مماينظر إليه أهل الدنيا ، فغايته السامية ليست في الدنيا ، فما هو براكن إليها ولا عابد لأوثانها ، فهو دائم الفكر ودائم السعي إلى ثمار تلك الحقيقة الزهراء في عالم الخلود ، فبنى ما يستره من حر الشمس، وما يكنه من الغيث والريح ; فإن الدنيا دار بلغة ، كما جاء في الآثار عن أصحاب نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم . أولئك الذين انتصروا بالحق على الباطل ، وبالأمل بالله على اليأس ، وبالشعور بالمسؤولية الثقيلة على حياة اللامبالاة ، فوافاهم رضوان الله ، وأقر المولى أعينهم بالفتح والنصر أينما توجهوا رغم المعاناة والآلام التي عاشوها أيام النبوة الأولى . فهم لم يستكينوا لطغاة الجاهلية الأولى ، ولم يخافوا أهوال التعذيب والترهيب ، ولم يحسبوا لخسارة الدنيا أيَّ حساب ، لأنهم أصبحوا بهذا الإسلام ربانيين يَعُون مافي الهدى والفرقان من سُمُوٍّ وارتقاءٍ بالنفس : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) 185/البقرة . ولأنهم ارتقوا فوق سفاسف متطلبات العيش ، ورنوا إلى الأعلى الموعود عند الله ، فلم يأخذ الحرص على الدنيا ومتاعها منهم أيَّ مكان في نفوسهم ، مؤثرين الآخرة على الدنيا ، مقتفين سُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة). رواه البخاري . فالصوم الحقيقي مدرسة إسلامية رائدة ، فيها من القيم والإرشادات والتعاليم والرقي بالنفس مالايُحصى :
* فالمغفرة التي تمحو الذنوب ، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) رواه البخاري ومسلم . ويقول عليه الصلاة والسلام : (الصلوات الخمس و الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ) رواه مسلم . وعن ابى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( من صام رمضان إيماناً و احتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
* والأخلاق التي تتسامى بالإنسان ، قال صلى الله عليه وسلم : ( الصوم جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم ) رواه البخاري ومسلم
* الجود بالنفس والمال لِما فيه خير الناس ، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الصدقة في رمضان ) .
* وتعويد النفس على مختلف الطاعات والسير المحمودة ، من صبر وإيثار ، وتربيتها على ترقُّب ماعند الله من فضل ، يقول صلى الله عليه و سلم ( عمرة في رمضان تعدل حجة ) أخرجه البخاري ، ويقول صلى الله عليه وسلم : (قد جاءكم شهر مبارك افترض عليكم صيامة تفتح فية أبواب الجنة ، و تُغلق فية أبواب الجحيم ، و تُغل فية الشياطين , فية ليلة خير من ألف شهر , من حُرم خيرها فقد حُرم ) رواه أحمد و النسائى و البيهقي ، وهكذا تتنوع فصول هذه المدرسة الربانية ... في مكارم الأخلاق ، وفي سيرة المسلم والمسلمة التي تترجم هذه القيم التي افتقدتها أمم الأرض في هذا العصر ، فكانت مشاكل أوقات الفراغ ، ومشاكل هذا الفراغ الروحي ، والضغوط النفسية التي ولَّدت القلق والاكتئاب ، وأفرزت حالة الانتحار بسبب اليأس وعدم الإيمان بالله والتعلق برحمته وتوفيقه . ويضرب القرآن الكريم في هذا المجال صورة رائعة للإيمان والثقة بالله في قصة مريم عليها السلام ، حيث حملت من غير زواج وهذا أمر فظيع عند الناس ، فطمأنها ربُّها وأنزل عليها السكينة : ( َفنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) 24/مريم ، فاطمأنت وأكلت وشربت وفرحت كما قال تعالى : (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) 26/ مريم ، وكذلك في قصة موسى عليه السلام الذي كان معرضا للذبح من فرعون ، فخافت عليه أمه ، ولكن الله طمأنها وأنزل عليها السكينة وبشرها بأنه النبي المنقذ لبني إسرائيل قال تعالى : (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) 7/ القصص . ولا يخفى على قارئ القرآن الكريم مابشَّر الله به المسلمين من أصحاب النفوس الصافية من كشف للغمم وتفريج للكروب ووعد بالفتح وبالجنة ، يقول الله تبارك وتعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) 30/ فصلت . إنَّ النفس الإنسانية إذا ماصفت وملأت آفاقَها هدايةُ الله سبحانه وتعالى تبتعد عن المحرمات التي مزَّقت الأسر ، وفتكت بالمجتمعات ، وأوقدت نيران الفتن والبغضاء ، وجعلت الحياة من وراء تلك الآفات أشبه بالصحراء القاحلة ، فالمخدرات وأنواع الخمور والتدخين ، والسفور والفجور والإباحية واللامبالاة والإيدز وأنواع الشذوذ ، وغيرها وغيرها كثير ، إن محاربة تعاليم الإسلام عند الكفار ، وإهمالها عند بعض المسلمين ، وعدم التمسك بأهداب القيم الروحية في كتاب الله وفي سُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ... هو السبب المباشر لهذا الانحراف الفكري ، وللضلال المستشري عند غير المسلمين ، بل وعند بعض المسلمين أصحاب الأحزاب وأصحاب التوجهات الشيطانية ... لكل المشكلات والمعضلات الاجتماعية التي يواجهها الناس اليوم ، ففي هذا الموسم الكريم ، وفي ظلال القرآن العظيم :
جدير بالمسلم كفرد واعٍ ، وبالأمة الإسلامية عامة أن تؤوب إلى رشدها لتُعافَى من جميع أمراضها ، وتنهضَ من كبوتها ، وتعود رحمة للإنسانية التي تتطلع إلى العافية ، وإلى السعادة وإلى آثار رحمة الله في الأرض التي لايمكن أن تكون إلا بالحكم بشريعة الله ، يقول الله عزَّ وجلَّ : ( ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنَ مَا هُوَ شِفاءٌ ورَحْمةٌ لِلْمُؤمِنينَ ) 82/ الإسراء وجدير بالناس في مشارق الأرض ومغاربها أن يتخلوا عمَّـا هم فيه من ضلالات وإلحاد وفساد واستكبار وبعد عن خالقهم ، لينالوا رحمة الله ، وأن يصغوا مليا إلى نداء ربهم سبحانه ، يقول الله تعالى : ( يا أيُّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وشِفاءٌ لِمَا فِي الصُّدورِ) 57/ يونس .
وسوم: العدد 842