قصة اكتشافي لمكي بن أبي طالب القيسي

من المعلوم أن مكي بن أبي طالب القيسي ولد في القيروان عام355ه وتوفي في قرطبة عام437ه. وفي هذا العام الذي نحن فيه 1437ه يكون قد مضى على وفاته ألف عام. ومن ثم فمن المناسب أن تعقد الندوات العلمية في الجامعات، والمراكز العلمية، إحياء لذكرى هذا العلم الكبير، وتعريفا به، وبآثاره العلمية الكثيرة، حيث شارك في عدد من العلوم العربية والإسلامية، وغلب عليه التخصص، والاهتمام،  بتفسير القرآن وعلومه.

وقد رأت جمعية المحافظة على القرآن الكريم- مشكورة- أن من واجبها أن تقيم ندوة لذكرى هذا العلم الكبير، يتحدث فيها المشاركون عن إنجازاته ونتاجه العلمي. وطلبت إلي أن أشارك في هذه الندوة المباركة، وكان لا يسعني إلا المشاركة، باعتباري أول من اكتشف هذا العلم،  ونفض عن مؤلفاته غبار السنين. نتيجة رحلة علمية خصصتها لذلك. وقد رأيت من المناسب أن أذكر قصة هذا الاكتشاف، لعلها تميط اللثام عن بعض الأمور الغامضة ، وتكشف بعض الحقائق الخفية. مما يكون فيه فائدة وعبرة. وهاكم القصة:

لما كان تخصصي في ميدان التفسير وعلوم القرآن، فقد فزغت إلى فهارس الكتب والمؤلفين باحثاً عن مفسر يكون موضوعاً لبحثي. وأثناء قراءتي لتراجم المفسرين في كتب طبقات المفسرين: لفت انتباهي اسم "مكي بن أبي طالب القيسي" والذي جعلني أقف عنده أن المترجمين له قالوا عنه:

- قال أبو عمر أحمد بن مهدي المقري عن مكي:

- كان من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية.

- حسن الفهم والخلق.

- جيد الدين والعقل.

- كثير التأليف في علوم القرآن والعربية، محسناً لذلك .

- مجوداً للقراءات السبع عالماً بمعانيها.

- وقال القاضي عياض :

 "وكان مع رسوخه في علم القرآن، وتفننه فيه: قراءات وتفاسير، ومعاني، نحوياً لغويا فقيهاً ".

وبدأت أبحث في المطبوع عن كتبه ومؤلفاته التي قاربت المائة، فلم أجد منها إلا رسالة صغيرة بعنوان :

" الإبانة عن معاني القراءات "- بتحقيق الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي-.

ومن ثم بدأت البحث عن كتبه المخطوطة – وبالدرجة الأولى- عن تفسيره المسمى:

" الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنون علومه "

وكان أن وجدت إشارة إلى- نسختين من هذا التفسير- في أحد أعداد مجلة معهد المخطوطات التابع للجامعة العربية بالقاهرة. وأن هاتين النسختين موجودتان في الرباط بالمغرب الأقصى.

وقد ذكرت ذلك لزميلنا وأخينا الأستاذ أحمد الأحمد-رحمه الله – حيث كنا مدرسين في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة – فقال الأمر سهل. قلت كيف ؟

 قال إن الأستاذ الشاعر عمر بهاء الدين الأميري مقيم في الرباط، وأنا أكتب إليه رسالة أستفسر عن الكتاب. وفعلاً كتب للأستاذ الأميري. والأستاذ الأميري طلب من رئيس قسم المخطوطات في الخزانة العامة بالرباط الأستاذ إبراهيم الكتاني- رحمه الله - أن يفيدنا بما عنده عن الكتاب. وهكذا كان.

 فقد كتب إلينا الأستاذ إبراهيم وصفاً للنسختين، ولم يكن الوصف للنسختين مما يشجع

– وذلك لكثرة التصحيف فيهما – ومع ذلك فقد قررت السفر إلى المغرب، لأقف بنفسي على جلية الأمر.

ولكن كيف أستطيع مثل هذا السفر المكلف- وكنت إذ ذاك متعاقدا مع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة- فخطر في بالي أن بالإمكان- تحويل تذاكر السفر الأربع لي ولأسرتي- إلى تذكرة واحدة باسمي، للقيام بهذه الرحلة. وذكرت ذلك لفضيلة الشيخ محمد ناصر العبودي-الأمين العام للجامعة الإسلامية آنذاك- حفظه الله-فوافق على ذلك. وسافرت مع الأسرة إلى عمان بالسيارة. وجاء الأهل من دمشق إلى عمان، فا صطحبوا الأسرة إلى دمشق, وسافرت بالطائرة إلى بيروت للحصول على الـتأشيرات اللازمة. وقد حاولت الحصول على تأشيرة إلى تونس، باعتبار مكي شخصية تونسية، وكنت أرغب في زيارة القيروان-المدينة التي ولد فيها مكي-والاطلاع على المخطوطات التونسية، فلم أوفق لذلك. 

وسافرت إلى المغرب ووجدت في الرباط ست نسخ من المجلد الأول-من تفسير مكي- وثلاث نسخ من المجلد الثاني، ونسخة من المجلد الثالث، وخمس نسخ من المجلد الرابع.

وهذه النسخ ليست كلها في الخزانة العامة في الرباط، بل هي موزعة على عدة من الخزائن، منها:

- الخزانة الملكية في الرباط.

- وخزانة القرويين في فاس.

- وخزانة وادي درعة في جنوب المغرب- من أقاليم الصحراء-.

- كما أن هناك نسخة من المجلد الأول في المكتبة العامة بمدريد.

-ومن الكتب التي كنت حريصا على تصويرها كتاب" الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، ومعرفة أصوله واختلاف الناس فيه"، وكانت نسخة منه، في خزانة القرويين في فاس، وكان لابد من السفر إلى فاس، ووصلت إلى خزانة القرويين، ودخلت عل القيم عليها الأستاذ محمد العابد الفاسي، وأخبرته بما أنا قادم من أجله. فاعتذر لي بأن إجازته تبدأ غدا ، فقلت له: أنا جئتك من المشرق، أضرب إليك أكباد الطائرات، لتقول لي مثل هذا الكلام .فقال لي: هل تستطيع أن تأتي بمصور من السوق، يصور لك الكتاب؟ قلت نعم . وقد تم ذلك.

أما بقية كتب مكي الأخر، فقد وجدت عدداً من نسخها، تحدثت عنها في رسالتي

" مكي وتفسير القرآن "-حيث وصفت هذه النسخ- كما وجدتها على الطبيعة-ذاكرا أرقامها في فهارس الخزائن التي زرتها. مبينا كل ما يتصل بها، مسجلا ملاحظاتي عليها. وربما بينت خطأ ما جاء في بعض فهارس الخزائن، من نسبة بعض الكتب إلى مكي، مثل:

 كتاب" الوقف": حيث جاء في فهرس المخطوطات العربية المحفوظة في الخزانة العامة برباط الفتح تحت رقم D-1731 (276)-: " الوقف " لأبي محمد مكي بن أبي طالب حموش القيسي، وهي رائية في أبيات(131) على مقروء الإمام نافع، أولها:

أيا طالبا في الوقف حكما ممهدا      على كل حرف حين يتلى من الذكر

في مجموع من ورقة (225-229 ب-مسطرتها16-مقياسها180- 230)

كملت في12 شعبان عام1312 مكتوبة بخط مغربي رديء.. ثم يقول:

راجع ترجمة المؤلف في ملحق بروكلمان-ج1-ص718.

...ولقد اطلعت على هذا الكتاب أثناء زيارتي للمغرب يوم-22-7-1971 في الخزانة العامة في الرباط وقد جاء في أوله:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، ثم كتب بالأحمر:

وقال القيسي- شيخ الجماعة، رحمه الله- في الأرجوزة المخففة...ثم كتب بالأسود:

أيا طالبا في الوقف حكما ممهدا      على كل حرف حين يتلى من الذكر

وبعد تسعة أبيات جاء بالأحمر: فصل الوقف على الهمزة...ثم فصل على هاء الكناية.. ثم فصل الوقف على الراء المتطرفة.. ثم فصل في الوقف على حروف المد واللين.. ثم فصل هو العاشر: في الوقف على باقي الحروف...

ويلاحظ على هذا الكتاب أن نسبته إلى مكي غير صحيحة، لأنها لا تعتمد على أدلة ثابتة،  ويبدو أن الذي رشح الكتاب في نسبته إلى مكي ما جاء في أوله:

 قال القيسي شيخ الجماعة. فكلمة "القيسي": هي التي رشحته لأن ينسب إلى مكي بن أبي طالب القيسي... وخطر في نفسي أنه ربما يكون هناك قرائن أخر لا أعرفها، فسألت القيمين على الخزانة:

 إن كان لديهم قرائن أخر، غير كلمة القيسي، فأخبروني أن ليس هناك أية قرينة، غير هذه الكلمة...

وعلى هذا فلا تصح نسبة الكتاب إلى مكي، لعدم وجود دليل، ولأنه لم يعرف لمكي كتاب واحد من كتبه التسعين، على طريقة النظم هذه. ولم يذكر أي كتاب من كتب التراجم، وكتب فهارس الشيوخ: كتابا لمكي بهذا العنوان، على هذه الصفة المتقدمة...مما يجعل هذه النسبة لا تقوم على أساس، ولا تستند إلى دليل. وبذلك لا نستطيع أن نجعل هذا الكتاب في عداد كتب مكي، التي صحت نسبتها إليه.

هذاما ذكرته عن كتاب الوقف عام 1971ثم وجدت مقالة منشورة على الشبكة-تؤكد ما سبق أن ذكرته من عدم صحة نسبة الكتاب إلى مكي، وتذكر ترجمة للقيسي –شيخ الجماعة- المؤلف الحقيقي لكتاب الوقف. ولعل من المناسب أن نشير هنا إلى بعض ما جاء فيها:

" ترجمة الإمام القيسي وما اكتنفها من غموض:

".......وقد أدى الاقتصار على ذكره بنسبته المجردة أعني" القيسي" إلى وقوع التباس بينه وبين الشيخ أبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي القيرواني، نزيل قرطبة، وصاحب "التبصرة في القراءات السبع -ت 437هـ- بسب الاشتراك في هذا النسب" "القيسي". 

فرغم هذا التباعد في الزمان والمكان، وقع بين الإمامين خلط عند أحد واضعي "فهرس الخزانة العامة بالرباط"، فإذا به ينسب القصيدة الرائية في "الوقف" لمكي القيسي، لأنه رأى مكتوبا على ديباجتها :  "قال القيسي شيخ الجماعة".

 وقد تبين لي ذلك حين رجعت إليها، معتقدا أنها لمكي المذكور، فإذا بي أجد ناظمها يعتذر فيها - كما سيأتي - عن التقصير بضرارته، لأنه كان أعمى، ويقول في باب الهمز:

"فابدأ بالهمز القوي لديهم - وخوض الضرير فيه كالخوض في البحر".    ثم وقفت بعد ذلك بسنوات، على مقال لأحد الباحثين، وقد لاحظ فيه مثل ما لاحظته وهو: الدكتور أحمد حسن فرحات في بحث نشر بمجلة الشريعة بجامعة الكويت عدد 1 السنة الأولى رجب 1404هـ أبريل 1984م، ويمكن الرجوع إلى م خ ع رقم 1371، وكذا رقم 672.

وقد ذكر الدكتور أحمد حسن فرحات في بحثه المذكور : "أن مجرد وجود اسم مؤلف على كتاب لا يكفي وحده لإثبات صحة نسبة الكتاب إلى هذا المؤلف، وغالبا ما يكون ذلك من خطإ النساخ، كما وجدت في فهارس الخزانة العامة في الرباط : "كتاب الوقف" لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي، وهي رائية في أبيات (131) على مقرإ  الإمام نافع، وقد جاءت تحت رقم 672 (1371د) وقد تصفحتها أثناء زيارتي للمغرب يوم 22/7/1971، وقد جاء في أول الكتاب: "قال القيسي شيخ الجماعة"، ولم يرد على غلاف الكتاب: اسم المؤلف، وخطر لي أن يكون واضع الفهارس، اجتهد في نسبة الكتاب إلى مكي، من ورود كلمة "القيسي شيخ الجماعة" في أول الكتاب... إلخ.

                                                

ومثل كتاب" العمدة في غريب القرآن":

 حيث ترجع صلتي بكتاب "العمدة في غريب القرآن" إلى عام 1970م حينما بدأت بجمع مخطوطات مكي بن أبي طالب القيسي، وذلك بعد أن أخذت موضوع رسالتي لنيل درجة الدكتوراه بعنوان: "مكي بن أبي طالب القيسي .. وتفسير القرآن الكريم"، وقد رأيت أن فهارس دار الكتب الظاهرية ذكرت كتابين لمكي بن أبي طالب القيسي هما: " تفسير المشكل من غريب القرآن على الإيجاز والاختصار" وكتاب " العمدة في غريب القرآن" وقد حصلت على نسخة مصورة لكل واحد منهما للاستفادة منهما في دراستي ولتحقيقهما ونشرهما بعد ذلك، وقد قمت بنسخ الكتابين تمهيداً لذلك.

وأثناء عملي بالرسالة كان يشغل تفكيري، ويلح علي تساؤل دائم، عن السبب الذي يدفع مكيّاً إلى تأليف كتابين في غريب القرآن: أحدهما بعنوان " تفسير المشكل من غريب القرآن على الإيجاز والاختصار. " والثاني بعنوان: " العمدة في غريب القرآن" وبخاصة أن في الكتابين نوعاً من الاشتراك والتداخل، في كثير من الكلمات التي جاءت فيهما، وأن تفسير تلك الكلمات المشتركة، لم يأت بلفظ واحد، وإنما جاء بألفاظ متغايرة، في كثير من الأحيان، ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة:

في كتاب "تفسير المشكل من الغريب":

-         لا تواعدوهن سرّاً : نكاحاً في العدة. وفي" العمدة ": الزنا، النكاح.

-         بسطة: أي: سعة. وفي" العمدة ": في اللسان، والعلم بالحرب.

-         ولا خُلّـة: أي: لا صداقة تنفع يومئذ. وفي" العمدة ": المودة.

-         العروش: السقوف. وفي" العمدة ": الأبنية.

-         لم يتسنه : لم يتغير. وفي" العمدة ": لم تأت عليه السنون.

-         طَوْلاً: أي سعة. وفي" العمدة " : الفضل في المال.

-         لمن خشي العنت: أي: الفجور، وأصله الضرر والفساد. وفي" العمدة ": الزنا.

-         فآتوهم نصيبهم: أي: من النظر والرفد والمعونة. وفي" العمدة ": من النصر والعمل دون الميراث.

-         ثبات: أي: جماعات، واحدتها: ثبة. وفي" العمدة ": جماعة متفرقة.

-         البروج: الحصون. وفي" العمدة ": القصور.

-في كتاب" تفسير المشكل من الغريب": المشيّدة: المطوّلة. وفي" العمدة ": محصنة  مرفوعة.

-         السّلَم: الاستسلام. وفي" العمدة ": المقادة، والطاعة.

-         ولا آمين: أي: عامدين. وفي" العمدة ": قاصدين.

-         النقيب: الكفيل على القوم. وفي" العمدة ": النقباء: الأمناء على قومهم.

-         فلما جنّ عليه الليل: أي: أظلم.  وفي" العمدة ": غطى.

-         أو دماً مسفوحاً: أي: سائلاً. وفي" العمدة ": مصبوباً.

كذلك كنت أقول في نفسي: كيف سأخرج هذين الكتابين إلى الناس- وهما على هذه الحال من الاشتراك-؟ وماذا يمكن أن يقال في تسويغ وجود هذين الكتابين، على هذا النحو؟

ولقد خطر لي مرة أن ينشر كتاب "العمدة" على هامش مصحف ؛ لأنه كثيراً مايفسر الكلمة بكلمة دونما زيادة. وأن ينشر كتاب " تفسير المشكل من الغريب" مستقلاً ؛ لأنه أكثر توسّعاً في الشرح.

كما فكرت في مرحلة من المراحل بدمج الكتابين في كتاب واحد- على أن يطبع كل واحد منهما بحرف مغاير لحرف الآخر- وسرت خطوة في هذا الطريق، حينما نسخت كتاب "العمدة" مع كتاب "تفسير المشكل من الغريب".

مقارنة بين ما جاء في الكتابين، وكتاب الهداية:

 ثم خطر لي أن أعقد مقارنة بين ما جاء في الكتابين من جهة، وبين ما جاء في كتاب "الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنون علومه –تفسير مكي المخطوط- من جهة أخرى – فلم أجد ما يدل على صلة واضحة بين كتاب "العمدة"، وكتاب "الهداية" في حين وجدت الصلة واضحة بين كتاب "الهداية"، وكتاب "تفسير المشكل من الغريب"، وهاكم بعض الأمثلة:

- في" تفسير المشكل من الغريب": لاريب : لاشك.

وفي كتاب " الهداية ": وهو نفي عام، نفى الله- جل ذكره- أن يكون فيه شك عند من وفقه الله، وقد ارتاب فيه من خذله الله ولم يوفقه.

- في" تفسير المشكل من الغريب": ومما رزقناهم ينفقون: أي: يزكون ويتصدقون.

وفي " الهداية ": معناه: يتصدقون ويزكون. وقيل: هي نفقة الرجل على عياله.

- في" تفسير المشكل من الغريب": المفلح: السعيد- من السعادة- والفلاح: البقاء.

وفي كتاب " الهداية ": وأصل الفلاح: البقاء في الخير، فالمعنى: وأولئك هم الباقون في النعيم المقيم.

والمؤمن: مفلح لبقائه في الجنة، ثم اتسع فيه فقيل لكل من قال خيراً: مفلح. وفي كتاب "العمدة": المفلحون: الفائزون.

- وفي" تفسير المشكل من الغريب": الخداع: إظهار خلاف ما في النفس.

وفي كتاب " الهداية ": الخداع: إظهار خلاف الاعتقاد. وفي كتاب "العمدة": يخادعون: ينافقون.

ويلاحظ- من خلال هذه النصوص المقارنة-: التقارب الشديد بين كتاب: "الهداية" من جهة، وكتاب "تفسير المشكل من الغريب" من جهة أخرى، حتى إن الألفاظ لتكاد تكون هي بذاتها، على حين نجد أن ألفاظ كتاب "العمدة" مغايرة لهما. وهذا ما يؤكد أن كتاب "الهداية" وكتاب "تفسير المشكل من الغريب": هما لمؤلف واحد، بينما كتاب "العمدة" ينبغي أن يكون لمؤلف آخر.

رحلة الشك:

ومن هنا بدأت رحلة الشك في صحة نسبة كتاب "العمدة" إلى مكي بن أبي طالب القيسي، وتوقفت عن العمل في تحقيق الكتاب، حتى أقطع الشك باليقين، وبدأت بدراسة هذه المشكلة المستعصية، والتي لم يكن لي بد من مواجهتها، ووضع حل حاسم لها. وكان أن وصلت إلى الحقائق التالية:

1- جميع الذين ترجموا لمكي، أو ذكروا كتبه: لم يذكروا كتاباً واحداً له باسم "العمدة".

وإنما ذكر بعضهم كتاب: "تفسير المشكل من غريب القرآن" وبعضهم ذكر كتاب "غريب القرآن". ولا شك عندي في أن المراد بهما واحد.

- وذلك كما حصل بالنسبة لكتاب "تفسير مشكل إعراب القرآن"- حيث جاء في بعض المصادر: باسم "إعراب القرآن". مما حمل الأستاذ إبراهيم الإ بياري على الظن بأنهما كتابان، وليسا كتاباً واحداً، ودفعه ذلك إلى أن ينسب كتاب "إعراب القرآن المنسوب للزجاج" إلى مكي بن أبي طالب القيسي.

وقد بينّا عدم صحة هذه النسبة في رسالتنا "مكي بن أبي طالب .. وتفسير القرآن"، كما كتب عن ذلك أيضاً الأستاذ المحقق أحمد راتب النفاخ في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق.

وإن إجماع كتب التراجم، وفهارس الكتب: على عدم ذكر كتاب، باسم "العمدة"- بين كتب ومؤلفات مكي بن أبي طالب القيسي- يعتبر دليلاً واضحاً، على عدم صحة نسبة الكتاب إلى مكي.

2- لم ترد للكتاب أية إشارة في كتب مكي، وهو كثيراً ما يحيل على كتبه الأخرى ويذكرها.

3- لم يبدأ الكتاب بمقدمة للمؤلف، كما هي عادته في جميع كتبه، ولا يشذ عن هذه القاعدة أي كتاب، مهما كان حجمه. كما نرى ذلك في كتبه : "التبيان" في اختلاف قالون وورش"- و "تمكين المد في آمن وآتى وآدم"- و "الياء ات المشددات في القرآن وكلام العرب"-.

وكما نرى ذلك أيضاً في كتابه : "تفسير المشكل من غريب القرآن- على الإيجاز والاختصار-"  حيث قدم له بمقدمة صغيرة جداً.

4- إن مؤلفات مكي بن أبي طالب معروفة ومحصورة، ولم يضع من أسمائها شيء؛ وذلك لأن مكّياً-رحمه الله- ترك فهرسا بأًسماء كتبه التي ألفها، وشيوخه الذين درس عليهم، وقد اعتمدت معظم المصادر على ما جاء في هذا الفهرس، ومن هنا فلا ينتظر أن يظهر كتاب جديد للمؤلف، لم تذكره كتب التراجم، وفهارس الكتب. 

وأمام هذه الحقائق الناصعة، التي تؤكد عدم وجود كتاب لمكي بن أبي طالب القيسي باسم "العمدة" لابد أن يقول قائل: إذن كيف نسب هذا الكتاب إلى مكي ؟ ومن الذي كان وراء هذه النسبة؟ ونقول جواباً على ذلك:

نظرة فاحصة:

إن نظرة فاحصة إلى الصفحة الأولى من المخطوط التي ذكر عليها اسم الكتاب، واسم مؤلفه كفيلة بأن تضع حدّاً للذهاب البعيد، وراء التخرصات والظنون ، بل إنها تكشف الحقيقة ناصعة مشرقة، لا لبس فيها ولا غموض، وتفسر كيف نسب كتاب "العمدة" إلى مكي بن أبي طالب القيسي، ومن الذي يقف وراء هذا الخطأ.

وإليكم ما كتب على الصفحة الأولى من المخطوط:

مختصر من كتاب غريب القرآن تفسير القرآن.

وهو كتاب العمدة صنعة: الإمام الأوحد أبو طالب مكي رحمة الله عليه.

و أول ما نلاحظه على هذا الكلام: أن الناسخ لهذا الكتاب لم يكن على قدر من العلم، يسمح له بأن يحسن كتابة عنوان الكتاب دون اضطراب، ولعل اسم الكتاب في النسخة التي نقل منها الناسخ كان مرتبّاً كما يلي:

- كتاب غريب القرآن.

- مختصر من كتاب تفسير القرآن.

- وهو كتاب العمدة.

و إذا صحت هذه القراءة لاسم الكتاب، فهو إذن: غريب القرآن، ويكون كتاب "العمدة" اسماً للتفسير الذي اختصر منه كتاب "الغريب"- ولعل هذا القول هو الراجح.

ويمكن أن يكون قوله: "وهو كتاب العمدة" يعود على كتاب "غريب القرآن" فيكون "العمدة" اسماً لكتاب الغريب – ولعل هذا القول هو المرجوح -.

وكما كان هذا الناسخ جديرا ًبالخطأ، في عنوان الكتاب، فقد كان جديراً أيضاً بالخطأ في اسم المؤلف، حيث قال: صنعة الإمام الأوحد أبو طالب مكي رحمة الله عليه.

والخطأ الذي وقع فيه الناسخ هنا: أنه حذف "الـ" من قوله "المكي"، وكانت هذه بداية الخطأ، في نسبة الكتاب إلى غير مؤلفه الحقيقي.

فمؤلف الكتاب الحقيقي إذن هو أبو طالب المكي، واسمه: محمد بن علي بن عطية الحارثي المتوفى عام 386هـ - صاحب كتاب قوت القلوب-. وليس المؤلف مكي بن أبي طالب القيسي أبا محمد.

ويبدو أن خطأ الناسخ في حذفه "الـ" أوقع واضع فهارس دار الكتب الظاهرية الدكتور" عزت حسن" في الخطأ أيضاً، فالتبس عليه الأمر وتعلق بكلمة "مكي"، وكلمة "مكي" إذا أطلقت في مجال التفسير وعلوم القرآن: انصرفت إلى "مكي بن أبي طالب القيسي"؛ لأنه ليس هناك من يشاركه في هذا الاسم، في مجال الدراسات القرآنية.

ولو أن الدكتور" عزة حسن" تنبه إلى كنية المؤلف "أبو طالب" لما وقع في هذا الخطأ، ولأمكن تصحيح "مكي"، ومما يساعد في ذلك أن كنية: " مكي" ابن أبي طالب القيسي "أبو محمد"، وليست "أبا طالب". وأبو طالب المكي اشتهر بالتصوف، والتأليف فيه وله تفسير مخطوط محفوظ في خزانة القرويين بفاس، من المملكة المغربية.

وكنت قد أرجأت الكتابة عن كتاب "العمدة"، لأطّلع على هذا التفسير المخطوط، والذي يرجح لديّ أن كتاب "العمدة": مختصر منه....

عشرون يوما في المغرب:

وبعد أن مكثت عشرين يوماً في المغرب، صورت خلالها معظم ما وجدته من تراث مكي، كان لابد من الذهاب إلى أوروبا، حيث مكثت أربعة أيام في إسبانيا، زرت خلالها المكتبة العامة في مدريد، وصورت منها الجزء الذي أشرت إليه، كما زرت مكتبة دير الإ سكو ريا ل في ضواحي مدريد، واطلعت على ما فيها من مخطوطات-ووافقت زيارتي لها وجود بعثة الجامعة العربية لتصوير المخطوطات- ثم عرجت على باريس، لمدة أربعة أيام أيضاً، ومن هناك ذهبت إلى لندن لمدة أربعة أيام، ثم إلى برلين، ثم ميونخ مطلعاً على مكتباتهما. ثم إلى استا مبول، ومكتباتها، ثم إلى القاهرة  ودار الكتب المصرية، والمكتبة الأزهرية. ثم عوداً إلى عمان، فالمدينة المنورة. ومكتبة عارف حكمت، والمكتبة المحمودية، وغيرها من المكتبات في المدينة المنورة، ومكة المكرمة، والرياض.

المخطوطات العربية، والإسلامية –في ديار الغرب- في مأمن:

والذي لابد من تسجيله هنا: أن المخطوطات العربية، والإسلامية –في ديار الغرب- هي في موضع الصون والأمان، والعناية والرعاية-بغض النظر عن الطرق، التي وصلت بها إلى هناك- كما أن بإمكان الباحثين، والراغبين –في تصويرها- من أخذ صور عنها-دون أية عقبات.

وأذكر أنني لما كنت أتفحص مخطوطة- في مكتبة المتحف البريطاني- وقد وضعت كفي على الصفحة المفتوحة منها، حتى لا تغلق الصفحة، فوجئت بالموظفة المراقبة تسرع نحوي، وقد حملت بيدها ملاقط بلاستيكية ، وقد وضعت على كل صفحة ملقطا، وقالت لي إن المخطوط سيتلف- إذا كان كل قارىء سيضع يده عليه-. فأين هذا السلوك من سلوك بعض القيمين على بعض المكتبات العربية، والذين يجعلون من المخطوطات سلما يقفون عليها، ليصلوا إلى الأعلى.

إنّ مثل هذه الرحلة أفادتني كثيراً، حيث تعرفت على تراثنا العريق الذي توز عته مكتبات العالم، كما أفادتني فيما أحتاج إليه في بحثي بالدرجة الأولى.

ولما كانت معظم النسخ الخطية- على الميكروفيلم- كان لابد من طبعها على الورق للاستفادة منها؛  وهكذا صح العزم على شراء آلة لطبع هذه المصورات. وقد كنت أقوم بنفسي بعملية الطباعة، وقد وفرت كثيراً من خلال هذا العمل، كما اكتسبت خبرة في هذا المجال. وكنت إذا حصلت على نسخة غير واضحة الطباعة، فإنني أقوم بعكسها من الأبيض إلى الأسود، أو العكس. فتأتي الصورة أوضح.

 وإذا لم تتضح مع ذلك كله، فقد كنت أضع الميكرو فيلم أمام مصباح كهربائي، واقرأ مباشرة من المكر وفيلم. وكثيراً ما كانت مثل هذه العملية تحل المشكلة – ولا غرابة في ذلك فالحاجة أم الاختراع – وبعد أن صوّرت عدداً من كتب مكي التي حصلت عليها، بدأت القراءة والاطلاع، على ما فيها. ولما تبينت لي مكانتها العلمية الكبيرة، كان لابد من تسجيل الموضوع، في جامعة الأزهر .

معركة تسجيل الموضوع:

بعد أن أنهينا مرحلة الماجستير، كان لابد لنا من اختيار موضوع رسالة الدكتوراه، وقد طلب إلينا أن نسافر، وأن نرسل موضوعاتنا المختارة، والخطط البحثية، عن طريق المراسلة. وبعد أن اقتنعت بالموضوع الذي سافرت من أجله، وجمعت ما نحتاجه من مخطوطات، قمت بوضع خطة للبحث بعنوان:

 " منهج مكي في تفسير القرآن ". وأرسلته في البريد- كما طلب إلينا- ثم جاءني الرد بعد فترة من الزمن، بعدم الموافقة على الموضوع، وأن على الطالب أن يختار موضوعا أكثر جدية. " وكانت صدمة كبيرة غير منتظرة ".

ومع ذلك فمن باب المسايرة: قمت ببعض التعديلات في خطة البحث، وجعلت العنوان :

" مكي بن أبي طالب وتفسير القرآن ".

ولم يفد ذلك شيئاً. فكان لابد من السفر إلى القاهرة. وذهبت إلى وكيل كلية أصول الدِين الشيخ عبد العظيم الغباشي-رحمه الله- وقلت له: لقد تقدمت بخطة بحث عن:

"مكي بن أبي طالب وتفسير القرآن".  فقال: اختر موضوعاً آخر. فقلت أريد أن أعرف السبب الذي من أجله كان الرفض – حتى لا يتكرر الأمر مرة ثانية –.

قال : الآن نحن عندنا امتحانات، وتأتينا في وقت آخر.

ثم قال : أنت أخذت رجلا مجهولا. كيف ستصنع منه رسالة؟ ولم يكتب عنه في كتب التراجم أكثر من صفحة ونصف؟. فقلت هذا شأني، وعملي. قال: تأتيني في وقت آخر.

وخرجت من عنده- وأنا لا أدري ماذا أصنع-. ثم خطر لي أن أقوم بزيارة الأستاذ السيد أحمد صقر – المحقق المشهور– وفي بيته عرضت عليه خطة البحث، وسألته عن رأيه فيها، فاستحسنها، قلت: ولكن الأزهر لم يوافق عليها. فقال : إذا أحببت أنا أعرضها على الدكتور عبد العزيز كامل- وزير الأوقاف وشؤون الأزهر حينذاك- فقلت له: أنا لا أريد أن أفتح معركة مع الأزهر، من أجل الموضوع. هل هناك حل آخر؟ قال: إذا استطعت أن تصل إلى الشيخ أحمد الكومي – رئيس القسم – وتقنعه بالموضوع، فإن الموضوع سيوافق عليه. قلت له : وكيف السبيل إلى ذلك؟

قال بعد قليل يأتي لزيارتي " الأحمدي أبو النور " – وهو مسجل رسالة عند الشيخ الكومي – فيمكن أن تذهب معه، ويعرفك على الشيخ، وتعرض عليه الموضوع. وكان ذلك .

مع رئيس القسم :

وعرضت الموضوع على الشيخ الكومي- رئيس القسم- فقال مثل ما قالوا لي : لماذا لا تختار موضوعاً آخر ؟

قلت: يا فضيلة الشيخ: أنا مقتنع بالموضوع، وقد سافرت من أجله ، وصورت كثيراً من مخطوطات المؤلف. وإننّي أحمل معي نماذج منها. وإذا أحببت أقرأ عليك بعض ما فيها. وقد قرأت عليه بعض ما فيها، فسكت الشيخ .

 ثم تابعت الحديث قائلاً : يا فضيلة الشيخ : أنا مقتنع بالموضوع، وسأمضي في البحث، ولن أتوقف، وسأعمل على تحقيق هذه الكتب، التي أسمعتك شيئاً منها، وسأنشرها بعد ذلك على الملأ- سواء وافق الأزهر على التسجيل، أم لم يوافق-. وسأقول للعالم : إن الأزهر الشريف، يقول عن هذا العالم – الذي له نحو من مائة مؤلّف في التفسير وعلوم القرآن والعربية- لا يصلح أن يكون موضوع دراسة.

قال الشيخ : كده !! قلت : كده ...

فتبسم الشيخ وقال : قدم الموضوع من جديد. وأنا أتبناه. وأشرف عليه، وهكذا كان ...

موضوع المناقشة:

وبعد الانتهاء من الموضوع، حان وقت المناقشة، وكان أحد المناقشين الأستاذ الدكتور محمد حسين الذهبي صاحب كتاب " التفسير والمفسرون "-رحمه الله- وقد بدأ مناقشته كما يلي:

قال: لقد أرسل إلي الشيخ الكومي: هذه الرسالة لقراءتها ومناقشتها، وقلت له : أنت تعلم أني قد قررت ألا أناقش رسالة لغير مصري – ذلك أن أحد طلابه من غير المصريين، والذي كان يشرف عليه- سرق له كتاباً وطبعه باسمه، مغيراً اسم الكتاب، فقرر الشيخ بناء على ذلك: ألاّ يناقش طالباً غير مصري.

ولكن الشيخ الذهبي قال : إنّ الشيخ الكومي قال لي : أنا أرسلت إليك هذه الرسالة : اقرأها أولاً: فإن أعجبتك ناقشها. وإلاّ فلا .

يقول الشيخ الذهبي : فلمّا قرأت هذه الرسالة قرأتها حرفاً حرفاً، وكلمةً كلمةً، لأنني وجدتها رسالة نموذجية، عرفتنا بما لم نكن نعرف . يقول : أنا كتبت عن " التفسير والمفسرون"  ولم أكن أعرف هذا المفسر . وهكذا ينبغي أن تكون الرسائل الجامعية. ثم قال:

 ولقد لفت انتباهي في هذه الرسالة الفصل الذي عقده بعنوان: "رد مغالطات ابن الشجري على مكي في مشكل إعراب القرآن" حيث وجدت ردودا قوية على ابن الشجري، حتى إني شككت، وقلت لعله نقلها من كتاب. فسألت أهل الاختصاص في العربية : هل تعلمون أن أحدا من المتقدمين أو المتأخرين رد على ابن الشجري مؤاخذاته على مكي؟ فقالوا : لا . فاعترفت للرجل أنه بذل جهدا كبيرا في رده مغالطات ابن الشجري.

 ثم قلت للشيخ الكومي – رحمه الله – يا فضيلة الشيخ: لو وافقتكم على عدم الكتابة في هذا الموضوع . كم تكون الخسارة ؟

قال : بلا شك، خسارة كبيرة.

نخلص من ذلك إلى أن الطالب المقتنع بموضوعه باستطاعته أن يقنع الآخرين .. كثيراً ما نرى الطلبة يتعثرون بعد اختيار الموضوعات نتيجة عدم الموافقة عليها من الجهات الرسمية. ولعل فيما ذكرت درساً مفيداً لهؤلاء الطلبة....

ثم إن اختيار هذا الموضوع لم يفدني فقط في تحصيل الدرجة العلميّة. بل أفادني كثيراً، حيث دخلت باب التفسير وعلوم القرآن، من أوسع أبوابه، باختياري لهذا العلم، الذي شارك في عدد من العلوم، وغلب عليه التخصص في التفسير وعلوم القرآن والعربية، فقد رافقته في معظم مؤلفاته، وخضت معه في بحار العلم التي خاضها، وعشت معه تفسيره ، ومشكل إعرابه، وقراءاته وناسخه ومنسوخه، وغير ذلك من مؤلفاته الكثيرة، مما أكسبني التمكن في هذه العلوم المتنوعة، نتيجة هذه الصحبة الطويلة.

إن التوفيق في اختيار الموضوع ثروة كبرى للباحث، ومن ثم على الطلبة أن يتخذوا لعقولهم ما يشحذها وينميها، ويزيدها رفعة وقوة.

في دوحة المخطوطات المحيطة بالحرم النبوي:

غير أنني في تلك الفترة- كنت معارا للتدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة- وكنت أقضي وقتي من بعد صلاة العصر إلى صلاة العشاء، في دوحة المخطوطات المحيطة بالحرم النبوي – حيث كانت مكتبة عارف حكمت، في جنوب الحرم وإلى جوارها مكتبة المدينة المنورة العامة، وفي داخل الحرم كانت المكتبة المحمودية- في الدور الثاني من مبنى الحرم-. وكانت مدة إقامتي في المدينة المنورة خمس سنوات من سنة / 1967 – 1972 م

 ولقد عشت هذه السنوات ضمن هذه الدوحة العامرة بالمخطوطات القيمة، أقلب في مخطوطاتها، وأفك رموزها واستقي من معينها، وأعيش مع الأعلام الكبار، الذين قضوا أعمارهم في كتابتها، وتسطير كلماتها. إن رائحة المخطوطات التي تعبق في المكان، ورهبة الجلوس مع هذه المؤلفات، التي توحي بحضور مؤلفيها في المكان، من خلال كتبهم ومؤلفاتهم، تبعث في النفس الخشوع، والإنصات إلى عظمة هذه الأمة، وعظمة هؤلاء الرجال الذين تركوا من خلفهم تلك الثروة العلمية، والتي أنفقوا فيها أعمارهم، واعتصروا فيها عقولهم وقلوبهم، لتكون إكسير حياة لمن بعدهم.

وفي مكتبة عارف حكمت تعرفت على نسختين خطيتين من كتاب" مشكل إعراب القرآن " لمكي بن أبي طالب القيسي- الذي كنت أعد دراسة عنه، وعن تفسيره – كما تعرفت على نسخة خطية من كتاب " الرعاية " لمكي- في مكتبة المدينة المنورة العامة – وقد شرعت في نسخها استعداداً لتحقيقها ونشرها فيما بعد .

وفي ذلك الوقت أصدر الأستاذ إبراهيم الأبياري في مصر ما اسماه بــ " الموسوعة القرآنية" وقد تضمنت عدة مجلدات:

-       المجلد الأول : كان عبارة عن طبعة للمصحف الشريف ..

-       والمجلد الثاني : كان المعجم المفهرس لألفاظ القرآن – لعبد الباقي –

-       والمجلد الثالث : كان في إعراب القرآن.

-       وثلاث مجلدات أخرى : بحيث كان مجموعها ستة مجلدات.

والذي يهمني هو هذا الجزء الثالث المتعلق بالإعراب، فقد ذكر أنه اعتمد فيه على ما جاء في مشكل الإعراب لمكي، ولكن لم يقتصر عليه، وإنما استفاد من غيره من المصادر . وقد خطر لي أن أعقد مقارنة بين ما جاء في هذه الموسوعة من مشكل الإعراب/ وبين النسخ الخطية، من مشكل الإعراب الموجودة في مكتبة عارف حكمت. وقد هالني ما رأيت من كثرة الأخطاء في مشكل الإعراب في الموسوعة القرآنية، حتى إن الأخطاء ربما وصلت- في الصحفة الواحدة- قرابة خمسين خطأ .. وقد تعجبت من ذلك ! كيف يكون هذا في كتاب يتصل بكتاب الله ..

ثم جاءت إجازة الصيف فوليت وجهي شطر القاهرة المحروسة، وزرت دار الكتب المصرية، وطلبت نسخة مشكل الإعراب، التي اعتمد عليها الأستاذ الأبياري - وهي في مكتبة تيمور- ولكن أحد الجالسين إلى جواري، قال لي : ما لك ولهذه النسخة من مشكل الإعراب، إنها قد طبعت في الموسوعة القرآنية، وأنا نسختها للأستاذ الأبيا ري وأرسلتها إلى المطبعة وطبعت ...

فعرفت السر وراء هذه الأخطاء الكثيرة، إنها قراءة الناسخ للكتاب، وليست قراءة عالم يعرف ماذا يقرأ، وماذا يكتب. ولكن هذا لا يعفي القائمين على الموسوعة، من المسؤولية. فلابد من المراجعة في مثل هذه المسائل العلمية. وإهمال ذلك يؤدي إلى مثل هذه الأخطاء القاتلة.

البحث عن النسخ الخطية :

من الصعوبات التي تصادف طلبة الدراسات العليا البحث عن النسخ الخطية، على الرغم من وجود فهارس المكتبات وتوافرها، ووجود المؤلفات والكتب، التي تعنى بفهارس المخطوطات، وأماكن وجودها. وتبقى الصعوبة قائمة وذلك لأن فهارس المكتبات، وفهارس الكتب تصلح أن تكون دليلاً أوليا يبدأ منه، ولكنها لا تقول كلمة الفصل في الموضوع، وذلك نتيجة ما يعتورها من قصور،  وما تحتويه من أخطاء يعرفها من سبق له أن تعامل معها .

فكثيراً ما تنسب المخطوطات إلى غير أصحابها، نتيجة لأخطاء المفهرسين وبخاصة حينما يكون هناك نوع من الاشتراك، في أسماء المصنفين. ولدي قائمة طويلة عريضة في مثل هذه الأخطاء، نتيجة اطلاعي على تلك الفهارس، وبخاصة أثناء رحلتي للبحث عن مخطوطات كتب مكي التي أشرت إليها فيما سبق، وأثناء المهمة العلمية التي كلفت بها عام 1979م من قبل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، لحصر المخطوطات المتصلة بالتفسير وعلوم القرآن في كل من- تونس، والجزائر، والمغرب- حيث كنت أنظر في فهارس المكتبات، ثم أطلب الكتب، وأنظر فيها متفحصاً، ثم واصفا لها من خلال الرؤية المباشرة.

وكانت نتيجة هذه المهمة أن قدمت لجامعة الإمام فهرسا لهذه المخطوطات معتمداً على ما انتهيت إليه، من تعريف بها، كما هي على الطبيعة.

وفي بعض الأحيان، يرى طالب الدراسات العليا نتيجة مطالعاته في فهارس المكتبات: وجود نسخ خطية للكتاب، الذي يبحث عنه في بعض الدول، ويسعى للحصول عليه، ولكن لا يتمكن من ذلك.

 وأذكر مرة كنت في المكتبة السليمانية في استا مبول وأردت الحصول على نسخة خطية من كتاب " الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه "لمكي، أثناء تحقيقي للكتاب. ولكن القائمين على المكتبة اشترطوا لتمام ذلك المبادلة بمخطوط عن الدولة العثمانية، موجود في دار الكتب المصرية، ولما طلبنا الكتاب من دار الكتب المصرية، قالوا بأن المخطوطات كلها وضعت في صناديق خاصة،  أودعت تحت الأرض، بسبب الحرب المنتظرة على مصر ...

ومع ذلك كله فربما كان الحصول على النسخ الخطية، في بعض الأحيان من الدول الغربية، أسهل من الحصول عليها من الدول العربية والإسلامية. ولي تجارب عملية في هذا الاتجاه .

توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف :

بعد أن يحصل طالب الدراسات العليا على المخطوط الذي يريد تحقيقه تصادفه مشكلة توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف وهو يعتمد في هذا التوثيق على كتب التراجم التي تذكر أسماء كتب المؤلف، كما يعتمد على فهارس الكتب التي تعنى بذكر أسماء الكتب والمصنفين بدءا من الفهرست لابن النديم ومروراً بكشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون وذيوله، وصولاً إلى تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، وتاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين، إلى غير ذلك من المؤلفات ك "الأعلام" للزركلي، و"معجم المؤلفين" لكحالة ... إلى آخر ما هنالك ..

ومع ذلك كله، فإن هذه الكتب ينقل بعضها عن بعض، فلو حصل خطأ في كتاب ما سنجد هذا الخطأ يتكرر في الكتب التي نقلت عنه غالباً، وربما يتنبه بعض المؤلفين إلى هذا الخطأ، فيصححه ويشير إليه.

وهناك كتب نجدها- موضع تنازع المصنفين والمفهرسين- فقد ينسب الكتاب إلى أكثر من مؤلف[2] وفعلت.

وهكذا يتبين أن الاستنتاج كان في محله، لأنه مبني على أصول راسخة من المعرفة بأسلوب المؤلف.

مكي المشهور: 

وإذا كان مكي بن أبي طالب مجهولا- حينما اكتشفته عام 1970م- فقد غدا اليوم مشهورا، على ألسنة العلماء والدارسين: تحقق كتبه، وتقوم حولها الدراسات، في الجامعات، ومراكز البحوث، حيث تم تحقيق عدد من كتبه، كما قامت دراسات حولها، ومن هذه الدراسات:

 -قواعد الترجيح والاختيار في القراءات عند الإمام مكي بن أبي طالب القيسي:

   أعدها: يحيى أحمد سلمان جلال-بإشراف الأستاذ الدكتور أحمد خالد شكري-.

- اختيارات مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه "الكشف عن وجوه القراءات "

  -دراسة لغوية- إعداد الطالب إسلام حسني محمد أبو صقر-

    إشراف الأستاذ الدكتور فوزي إبراهيم موسى أبو فياض

- منهج مكي بن أبي طالب في الاختيار والترجيح في التفسير-جمعا ودراسة-        إعداد: دخيل بن عبد الله الدخيل-إشراف الدكتور حسين بن محمد بدرية.

- منهج مكي بن أبي طالب في الترجيحات من خلال تفسيره" الهداية إلى بلوغ النهاية"

  إعداد الطالب : فاخر بن بر يكان بن بركي القرشي-إشراف: د. عبد الرحيم الغامدي-.

-إلى غير ذلك من الدراسات-.

خاتمة تتضمن:

قائمة بالكتب، والد راسات حول مكي:

" مكي بن أبي طالب وتفسير القرآن" - أ. د. أحمد حسن فرحات- رسالة دكتوراه -  طبعت في عمان عام -1983  دار الفرقان- وفي دار عمار- و دار البيارق- 1997 م .

"الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة"-تحقيق-طبع في دمشق عام1973 دار الكتب العربية/ وفي دار عمار-عمان- عام 1984 م –

"شرح ( كلا ) و ( بلى ) و ( نعم )" - تحقيق - طبع في دمشق عام 1976 م

-دار المأمون للتراث - وفي دار عمار- عام 2003 م .

" الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" - تحقيق - طبع في الرياض عام 1976م

  -كلية الشريعة- جامعة الإمام / وفي جدة- 1986 م - دار المنارة-.

"الياء ات المشددات في القرآن وكلام العرب" - تحقيق - طبع في الرياض- عام 1982  م - المكتبة الدولية /- وفي دار عمار- 2002 م  .

بحوث منشورة:

·       "نظرات في ما أخذه ابن الشجري على مكي في مشكل إعراب القرآن

-       مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق عام 1976 م -على ثلاثة أعداد- .

·       "اختصار القول في الوقف على ( كلا ) و ( بلى ) و ( نعم ) - المكتبة الدولية - الرياض -عام 1982 م . وفي دار عمار- عام 2003 م .·       "كتاب العمدة في غريب القرآن لا تصح نسبته إلى مكي القيسي"

    - المجلة العربية في الرياض- العدد الحادي عشر- السنة الخامسة-عام          1982 م

·       "كتاب العمدة في غريب القرآن لا تصح نسبته إلى مكي القيسي ( 2 )" 

     -مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية -العدد الأول - الكويت عام 1984 م .

·       " تمكين المد في " آتى " و " آمن " و " آدم" و"شبهه": لمكي القيسي-تحقيق-

- مجلة الشريعة    والدراسات الإسلامية  الكويت - العدد الثاني عام 1984 م

·       موازنة بين كتاب الناسخ والمنسوخ لابن العربي، وكتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي - مجلة كية الدراسات الإسلامية والعربية – دبي- العدد العشرون - سنة 2001 م ·       نظرات نقدية في تحقيق المخطوطات" - نشر ضمن كتاب " صناعة المخطوط العربي الإسلامي "- الصادر عن مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث- عام 1997·       "تحقيق المخطوطات في الرسائل الجامعية - رؤية نقدية "- مركز جمعة الماجد 1999 م

حيث أشرت في البحثين الأخيرين: إلى بعض الأخطاء، التي وقع فيها بعض المحققين لكتب مكي.

-والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات-

[1]  انظر على سبيل المثال بحث " كتاب درة التنزيل وغرة التأويل " لا تصح نسبته إلى الراغب الأصفهاني في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية الكويتية – لصاحب هذا البحث – العدد ...

2 تفسير الهداية: ص 12 / 13 / م،  بحث مطبوع على الآلة الكاتبة. للحسن بو قسيمي.

وسوم: العدد 842