ملاحظات على مقالة (ظل الله ومملكته)
المقالة الموسّعة جديرة بالنظر حقاً، وفيها جهد واضح مبذول بصرف النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف مع منهجيتها واستنتاجاتها. ونؤكد أنها - على أهميتها - مقالة وليست بحثاً، فالبحث يتطلّب مواصفات لا تُطلَب في المقالات الموسّعة على هذا النحو.
*ثمة ملاحظات عّدة بشأن ما ورد فيها، أكتفي منها في هذه العجالة بنقاط وجيزة*:
١/ اعتماد المقالة تعبير "اليوتوبيا" يبدو إشكالياً ويشي باستعجال في الوصف أو بتحيُّز كامن في الأحكام؛ إن فُهِم منه أنه نموذج مثالي منشود ومتخيّل لا نصيب له من الواقع ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. لِمَ لا يُقال مثلاً إنّ الخيارات أو النماذج المنشودة وإن بدت مثالية إلاّ أنها في واقع التطبيق المحتمل تبقى نسبية لا تبلغ الكمال المنشود؛ دون أن يقدح هذا في مبتغاها. يُحيلنا هذا مثلاً إلى فكرة "حكم الشعب بالشعب" في الديمقراطية، فهي في واقع التطبيق تبقى نسبية بل مجروحة أو حتى غائبة، إلى حدّ ينفي معه بعض الناقدين فكرة تحقّق مشاركة الشعب في واقع التطبيق الديمقراطي (وصولاً إلى تشومسكي مثلا)، فهل يقضي هذا بالقول بأنّ الديمقراطية هي يوتوبيا؟
صحيح أنّ سؤال نظام الحكم في الإسلام يبقى قائماً ومحاطاً بإشكاليات جمّة واضطرابات في المعالجة؛ إلاّ أنّ مقولة اليوتوبيا تبدو مُغالية وإشكالية في هذا الباب، وإن عبّرت بعض الخطابات عن نزوع حالم إلى مراهنة مثالية أو تقمّص تاريخي.
٢/ وقَف الكاتب في مقالته الموسّعة عند سيد قطب والمودوي ولم يتجاوزهما من الناحية الزمنية. ومعلوم أنّ الخطابات المتبنّاة في الأوساط المصطلح عليها بـ"الإسلام السياسي" (وهو مصطلح إشكالي للغاية) لم تَقِف في المضامين عند حدود ما طرحه سيد وأبو الأعلى، وبين أيدينا نصف قرن بحياله من المقاربات والمواقف والممارسات اللاحقة التي لم يشملهما المقال. يحقّ لأي كاتب أو باحث أن يتخيّر حقبة التناول؛ لكن أن يُمنح الانطباع - بقصد أو بدون قصد - بأنه تناوُل سابغ وممتد إلى اللحظة التاريخية الراهنة يقتضي عندها مراجعة منهجية جادّة. ووجدنا كثيراً من التناولات النقدية للخطابات الإصلاحية ذات المشرب الإسلامي تقف عند محطة زمنية معيّنة وتغفل عن نموّ لاحق طرأ على الخطاب وتطوّرات شهدتها الممارسة، وهو ما أغرى بعضهم بإطلاق أحكام متسرعة على سيرورة الخطاب وصيرورته. لا يعني هذا أنّ الخطابات تطوّرت من بعدّ على النحو الأمثل أو أنها لم تواجه مآزق فكرية؛ لكنّ الحاجة تبقى قائمة لإدراجها في التناول والبحث بدل تخطِّيها وإغفالها.
٣/ يُحمَد للكاتب أنً واكب تطورات اجتماعية وتاريخية ذات أثر في واقع الحكم والدول والمجتمعات والنخب والجماهير، وكان أجدر به أن يلحظ أيضاً تطوّر الديمقراطية ذاتها في سياقاتها خلال القرن العشرين عبر العالم، فما نشهده اليوم من أمرها لا يُطابِق ما كان عليه الحال عالمياً قبل مراحل خلت، وهو مُعطى ذو أثر في فهم ملابسات الأطروحات النظرية في كل مرحلة.
٤/ إنّ التحوّل الذي طرأ مع إلغاء نظام الخلافة لا يقتصر - كما ركّز عليه الكاتب - في جوهره على غياب المرجعية السياسية الجامعة المسلمين واقعياً و/أو رمزياً؛ فقد رافقته انتقالة من دولة عالمية كبرى صمدت قروناً رغم متاعبها المزمنة إلى كيانات مفتتة مكشوفة للاستعمار الأوروبي والهيمنة الخارجية. لو أنّ المقالة أشارت إلى هذا المتغيِّر الجسيم لساعدت القارئ - ربما - على إدراك أفضل للسياقات؛ وقد يُدرِك القارئ معها شيئاً مما قد يستغلق على الأفهام من ملابسات اضطراب الخطابات الإصلاحية عموماً في أمر إصلاح الأمة سياسياً؛ بعد أن فقدت كيانيتها الواقعية و/أو الرمزية وانتهت إلى فتات كيانات واقعة تحت الاحتلال والهيمنة. ويلحق بذلك تطوّر مفهوم الدولة ذاته عمّا عرفته التجارب التاريخية في عهود المسلمين السالفة، فصارت الدولة "الحديثة" مهيمنة على المجتمع ومُصادرة لبعض مقوِّماته كما تجلّى بعد في الواقع العربي بعد إعلانات الاستقلال. كان رهان الأفغاني وعبده - مثلا - على الدولة الجامعة وصارت محاولاتُ الإصلاح من بعدّ محاصرةً في دول مفتتة تعيش متلازمات متضافرة من استبداد الداخل وهيمنة الخارج وقصور المجتمعات وعجز النخب.
إن هذه الملاحظات وغيرها مما لم يُسرَد في هذه العجالة؛ لا تُلغي ما في المقالة من أهمية بصرف النظر عن مدى الاتفاق معها أو الاختلاف.
ويبقى تساؤل جانبي من واقع هذه المقالة الموسّعة والجهد المحترم: هل يجد بعض أصحاب القلم حرجاً من ذكر الصلاة على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عندما يذكرونه في ما يكتبون؟ أم تُلزمهم السياسة التحريرية للمنبر الإعلامي بهذا؟ وهل نحن إزاء تعبيرات الاستشراق الذاتي؟ أمر محيِّر!
وسوم: العدد 845