أيام عشرة حيّرت العالم
الأيام العشرة المعنية في عنوان هذه المقالة ، والتي حيّرت العالم ، هي تلك الواقعة بين " ثورتين" ، هما الثامن من آذار 1963 والثامن عشرمنه 2011 . وكما يبدو للقارئ الكريم فإننا أمام فارقين زمنيين مختلفين ، فارق العشرة ايام ( بين 8 و 18 )، من جهة ، وفارق نصف القرن ( بين 1963 و2011 ) من جهة أخرى . وهذا الفارق الزمني الأخير هو مايجب التوقف عنده وليس العشرة أيام . هذا وقد ذكرتني عشارية آذار السورية و من باب مايسمى بعلم النفس بـ " التداعي بالاقتران اللفظي " ، بعشارية جون ريد السوفييتية ( عشرة أيام هزت العالم ) . ولكني لست متأكدا هنا من أن الثورة السورية يمكن أن تهز العالم كما سبق للثورة اللينينية أن هزته . إن ما شهدناه و نشاهده بأم أعيننا منذ 18 آذار 2011 وحتى غد وربما بعد غد أيضاً ، يشير إلى أن الثورة السورية قد أدخلت العالم كله في حيرة من أمره ، والسبب في ذلك هو أن هذه الثورة إنما هي ثورة الحق على الباطل وهذا سر قوتها ، ولكنها وبنفس الوقت هي ثورة الضعيف على القوي وهذا هو سر ضعفها . والقوي هنا هي دول العالم النووية وشبه النووية التي تحمل طائرات الشبح والسوخوي والميغ بيد ، والكذب والخداع والتضليل وداعش باليد الأخرى . إن مايحدث في سوريا والعراق اليوم ، وهذا مع الأسف الشديد ، تماماً هو العكس ، أي أن العالم هو الذي بدأ يهز سريرالثورة السورية تارة بيديه وتارة برجليه ، كيما يجعلها تخلد إلى النوم ، وينسيها أهداف الحرية والكرامة التي ثارت من أجلها ، ويطفئ بالتالي جذوتها بما هي آخر جزء باق من ثورات الربيع العربي .
إن الصورة الفوتوغرافية المؤلمة والمؤسفة لما جرى ويجري في سورية " الصغرى " تشير بصورة أساسية هذه الأيام إلى ما يلي :
إن سماء سوريا تغص اليوم بمختلف أشكال وآنواع الطائرات الأجنبية الحربية ، التي لم تبق في كافة المدن السورية ، على عائلة واحدة في بيتها ولاعلى طفل واحد في حضن أمه وليس ماجرى بالأمس في داريا ويجري اليوم في حلب ، عنا ببعيد .
ـوأن أرضها تغصّ بدورها بمختلف أشكال الميليشيات (غريبة الوجه واليد واللسان ) ،ـ وأن بحرها الأبيض المتوسط يزخر بحاملات الطائرات وبالغواصات وبمختلف أشكال وأنواع السفن الحربية ، ولكن ليس السفن التي قال عنها عمرو ابن كلثوم ذات يوم في معلقته الشهيرة ( ملأنا البر حتى ضاق عنا وظهر البحر نملؤه سفينا ) وإنما السفن الإيرانية والروسية والفرنسية والإسرائيلية وغيرها ،
ولكنه ( البحر الأبيض المتوسط ) يزخر أيضاً بزوارق المهربين المهترئة التي تنقل الهاربين من جحيم نظام عائلة الأسد إلى أوروبا طلبا للأمن والأمان ، والذين غالباً ما انتهى المطاف بالآلاف منهم ليس في أوروبا وإنما في بطن أمواج البحر وبطن أسماكه .
إن من يحكم سوريا منذ 1963 وحتى اليوم هم واقعياً جنود وضباط إمام الزمان ، المهدي المنتظر الذين امتطوا صهوة حزب البعث ، وصولا إلى كراسي الحكم ، وجيوب المواطنين وأنهم حفاظا على مكاسبهم غير المشروعة هذه دمروا سوريا ، وقتلوا أطفالها ، وهجّروا أهلها، وعندما لم يفدهم كل هذا العمل الوحشي لجؤوا إلى استدعاء الميليشيات الطائفية ، الإيرانية واللبنانية والعراقية ، وأخيرا وليس آخراً استدعوا روسيا بوتين ليتنازلوا لها عن سلطتهم وعن بلدهم وعن كرامتهم مقابل فقط حمايتهم من أبناء شعبهم الذين لم يطالبوهم في آذار 2011 بأكثر من الحرية والكرامة وحقوق الإنسان .
نعم إن ثورة 18 آذار2011 ، تختلف جذريا عن ثورة 8 آذار1963 ففارق العشرة أيام بين " الثورتين !" إنما هو عملياً فارق نصف قرن من الاستبداد والفساد ، ومن الحكم العسكري الديكتاتوري الطائفي ، الأمر الذي معه ـ وهذا من وجهة نظرالكاتب الخاصة ـ لا يستحق انقلاب 1963 حتى اسم" الثورة"، ذلك أنه كان انقلاباً عسكريا، هدفه تثبيت الإنفصال(انقلاب النحلاوي ) ومنع العودة إلى الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة) ، والوصول إلى السلطة على ظهر كل من الجيش وحزب البعث ، وبالتالي فهو انقلاب عسكري بامتياز بل و يدخل ، وهذا من وجهة الكاتب الخاصة أيضاً، في باب " الثورة المضادة " وليس في باب " الثورة " .
عندما قامت " ثورة " 08.03.1963 ، ظن البعض ( وأنا واحد منهم ) أن الوحدة والحرية والاشتراكية باتت تقف خلف الباب ، ( على حد تعبير سميح شقير ) وعندما فتحنا الباب ، في أحد أيام صيف حكم عسكر إمام الزمان ، لم نجد وراءه لا وحدة ولا حرية ولا إشتراكية بل ولا حزب بعث ، وإنما وجدنا فقط حافظ الأسد يحمل " كرباجاً" ويصيح بأعلى صوته : أيها الناس أيها السوريون اسمعوا وعوا " الأسد أو نحرق البلد " وكان على الشعب السوري أن يختار بين أمرين أحلاهما مر ، ومع ذلك فقد قبلوا بأقل الضررين ، حفاظاً على بلدهم وأطفالهم ، ولكن لم يكن يخطرعلى بالهم بحال ، أنه عندما يموت هذا الأسد، سوف يسلم الراية الملطخة بدم أبنا ء مدينة حماة إلى وريثه بشار، الذي فهم رسالة أبيه الطائفية جيداً ، وتحول بقدرة ولي الفقيه إلى نيرون القرن الواحد والعشرين ، وكان حرق البلد هو خياره الوحيد ووسيلته الطائفية المفضلة ، للمحافظة على ذلك الكرسي الذي ورثه عن أبيه .
إن تغييب نظام عائلة الأسد لكل من الحرية والكرامة وحقوق الإنسان ، فرض على الجيل الشاب في سوريا أن يقوم بواجبه في إنقاذ بلده والدفاع عن أرضه وعرضه ، وذلك بوضع حد لهذا العبث الوراثي الطائفي العسكري الدموي ، وهكذا بدأ " الشباب " يتهيؤون للثورة على هذا النظام الفاشي منذئذ ، فكانت ثورة 18 آذار 2011 ، وكان شعارها المعروف " الشعب يريد أسقاط النظام "يمثل الرد الطبيعي على لعبة ولي الفقيه ولعبة التوريث المناقضتان لحرية وكرامة الشعب السوري .
إن وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970 ، كان يعني تطبيقياً وصول أقليّة بعينها إلى سدة الحكم وعلى حساب الشعب السوري بمختلف طوائفه ومكوناته الوطنية والقومية . بل وعلى حساب الحرية والديموقراطية وصندوق الإقتراع . إن هرولة العالم بيمينه ويساره لدعم هذه " الأقليّة " على حساب " الأكثرية " ، إنما هي هرولة في الإتجاه المعاكس لحركة التاريخ ، و وستبقى ملايين الشهداء والجرحى والمعاقين والمغيبين قسراً والمعتقلين والمهجرين في سوريا وآخرهم في مدينة حلب الشهباء ، دين في رقاب هذا العالم الصامت والمتفرج إلى يوم الدين .
لقد كتبت ذات يوم مقالة بعنوان " بين الخطيئة والخديعة خيط رفيع " ، وإنني الآن أعيد طرح هذا العنوان فقط ،معتبرا أن وقوع بعض " البعثيين" ( وأنا كنت واحداً منهم ) في الخديعة ذات يوم لايبرر استمراروقوعهم في الخطيئة إلى اليوم . وينطبق هذا ليس فقط على الوقوع في فخ حافظ الأسد عام 1970 وإنما أيضاً على الوقوع في فخ الثامن من آذار 1963 ، وأتمنى أن يكون كلامي هذا مفهوما ومقبولاً، من قبل من أعنيهم من " الرفاق " و " الأصدقاء" .
وسوم: العدد 849