مناسبة الاستقلال فرصة لشكر نعمة الحرية درءا لحلول النقم
وعد الله عز وجل في محكم التنزيل من يشكرون نعمه بالزيادة فقال : (( وسنزيد المحسنين )) كما أنه توعد من يكفرونها بزوالها وحلول النقم محلها فقال : (( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )).
ومعلوم أن نعم الله عز وجل كثيرة تعدد ولا تعد ، مصداقا لقوله تعالى : (( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها )) ،وما لا يحصى لا يمكن أن يشكر، ومع ذلك يرضى الله عز وجل من عباده الشكر القليل على إنعامه الكثير .
وقليل من العباد من يشكر نعم ربه جل وعلا كما جاء في محكم التنزيل : (( وقليل من عبادي الشكور )) . وقلة شكر العباد ربهم سبحانه مرده إما جهل بإنعامه وما ينبغي أن يكون ذلك أو تجاهله له، وهو أقبح .
وكثيرة هي نعم الله عز وجل التي لا يلقى لها بال ، ويظن أنها ليست ذات أهمية وهي من أعظم النعم . ولا يقدر نعم الله عز وجل حق قدرها إلا حين يحصل الحرمان منها . وقد يفتح كثير من الناس أعينهم على نعمة من أعظم النعم، ولمّا يحضروا وقت حرمانها ، فلا يقدرونها حق قدرها ، وقد يعجبون ممن يقدرها بل قد يسخرون منه .
ومن تلك النعم العظيمة نعمة الاستقلال بعد احتلال أو الحرية بعد عبودية التي يقدرونها حق قدرها من سلبتم منهم ، وعاشوا فترة الحرمان منها ، فهؤلاء إذا ما حلت ذكراها شكروا المنعم سبحانه عليها ، أما الذين فتحوا أعينهم ونعم الحرية تشملهم فقد لا يعني حلول ذكراها شيئا بالنسبة إليهم ، وقد لا يذكرهم بها سوى استفادتهم من يوم عطلة . وشر من هؤلاء من يستخفون بها، ولا يرون أنها تستحق أن يحتفى بها بل منهم من يتمنى لو دام زمن نقمة الاحتلال والعبودية وزوال نعمة الحرية، لأنهم ساخطون على الأوضاع في ظل نعمة الحرية ،ويزعمون أن الأوضاع في ظل الاحتلال كانت أحسن وأفضل .
والنعم عموما توجب على من يستفيدون منها شكر المنعم سبحانه وتعالى أولا ، ثم شكر من جعلهم سببا في حصولها ، ومن لا يشكر هؤلاء، لا يشكر المنعم سبحانه . وشكر النعم مراتب ودرجات حيث يكون أدناها شكر اللسان ، وأعلاها استعمالها في مرضاة الله عز وجل ،لأن أشنع كفران ، وأقبح جرم يرتكبه الإنسان هو الاستعانة بنعم المنعم على معصيته .
وبهذا الاعتبار قليل من يشكرون نعم الحرية والاستقلال عندنا ، ذلك أن كل الذين يستفيدون من هذه النعمة العظيمة، ويستعينون بها على معصية خالقهم يكفرونها ولا يشكرون.
وبيان ذلك أن نعمة الحرية هي بوابة إلى نعم أخرى كثيرة لولاها لما كانت . وأقبح كفران لنعمة الحرية أن يستفيد الإنسان مما تتيحه له من نعم تكون سبب طغيانه وعصيانه وخروجه عن طاعة المنعم جل جلاله ، فالذي فاض رزقه في ظل نعمة الحرية، وكان قبل ذلك معدما ولم يشكرها باستعمالها في طاعة خالقه، كان أشد الناس كفرا للنعمة . ومن هؤلاء من أطغتم نعمة الغنى المادي ،وهي نعمة إنما مهدت لها نعمة الحرية ، ولو دام حرمانهم من هذه لما ذاقوا شيئا من تلك النعمة ، ومع ذلك يعيثون في الأرض فسادا ، ويأتوا كل أنواع الفساد ، ويدعون إليه بل ينفقون عليه مما أنعم به الله عز وجل عليهم .
ومن كفران نعمة الحرية أيضا خيانة الوطن ، وهي أشكال أنواع، فمنها خيانة التنكر له كما هو شأن دعاة الانفصال عن الوطن الأم، ومنها خيانة نهب وسلب خيراته دون وجه حق ، ومنها خيانة التقصير في القيام بالواجب تجاهه ، ومنها خيانة عدم الاهتمام بشؤونه ، ومنها خيانة تخريب ممتلكاته ومقدراته ، ومنها خيانة الاستفادة من امتيازات غير مستحقة ، ومنها خيانة استغلال السلطة فيه دون وجه حق ، ومنها خيانة الارتشاء ، ومنها خيانة التهرب الضريبي ، ومنها خيانة الدوس على القانون ، ومنها خيانة الاعتداء على الحقوق ، ومنها خيانة السكوت على ضياع الوطن ، ومنها خيانة الدعوة إلى إحياء ما كان سائدا خلال فترة نقمة الاحتلال والحنين إلى ذلك ، ومنها خيانة التنكر للهوية الإسلامية بالدعوة إلى بديل عنها يقتبس من هوية محتل الأمس ..., ومنها أنواع أخرى من الخيانة جلية غير خفية ، وكلها تلتقي عند آفة كفران نعمة الحرية والاستقلال.
ويجدر بنا جميعا أن نغتنم فرصة حلول مناسبة هذه النعمة العظمى لمحاسبة الذوات ، وللصلح مع الوطن صلحا صادقا يترجم إلى أفعال ولا يقف عند أقوال ، ولشكرها باستعمالها في مرضاة واهبها جل شأنه . ومن لم يفعل ذلك لم يشكر ، ومن لم يشكرعجل الله عز وجل بزوال ما به من نعم ، وبحلول ما يخشى من نقم.
اللهم لك الحمد والشكر على نعمة الحرية والاستقلال وعلى كل النعم حتى ترضى، وإذا رضيت، وبعد الرضى ، اللهم جازي عنا كل خير من أجريت على يديه هذه النعم ، وكان سببا في حصولها أمواتا وأحياء ، اللهم أعن بعونك من شكر نعمك ، واستعان بها على طاعته ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 851