الاستيطان الإسرائيلي: هوس التاجر وهستيريا المستعمر
في أيلول (سبتمبر) 2018 لم يكن الإسرائيلي أرييه كنغ، الناشط الاستيطاني الشهير ومدير «صندوق أرض إسرائيل»، يدرك أنّ سنة واحدة فقط سوف تنقضي قبل أن يبصم وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على «فلسفة» الاستيطان التي يعتمدها، في الضفة الغربية عموماً، وفي القدس المحتلة بصفة خاصة. الأحرى القول إنه لم يكن، أصلاً، بحاجة إلى تصريحات أو حتى قرارات كبرى نوعية من البيت الأبيض (على غرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أو إقرار السيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، أو شرعنة الاستيطان في الضفة الغربية)، كي يبشّر المستوطنين بقرب توسيع المستوطنة الإسرائيلية نوف تسيون، لتصبح الأكبر شمال القدس المحتلة وفي جوار جبل المكبّر.
وبالأمس نقلت صحيفة «هآرتز» بعض تفاصيل التوسيع، حيث كانت المستوطنة الأمّ قد أُنشئت مطلع القرن الجديد، وانتقلت إليها 96 عائلة إسرائيلية تقطن مجمّعين سكنيين؛ وذلك بعد معركة «قضائية» حول شراء الأرض، انتهت (بالطبع، وكما في تسعة أعشار الحالات) إلى انتصار اثنين من رجال الأعمال مساندي الاستيطان: الإسرائيلي رامي ليفي، والأسترالي كيفن بيرمايستر (وهذا الأخير أحد مؤسسي شركة اتصالات «سكايب» الشهيرة). وأوضح كنغ أنّ التوسع الراهن هو مرحلة أولى، سوف تعقبها مرحلة ثانية تتضمن 300 وحدة إسكان؛ الأمر الذي يعني أنّ الجوار الفلسطيني، الذي يحيط بمستوطنة نوف تسيون من أربع جهاتها، سوف يشهد مستقبلاً جولات جديدة من القضم والهدم والتضييق.
وللمرء أن يستعيد، هنا، ومن باب ربط الماضي بالحاضر والمستقبل، أنّ وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق يتسحاق مردخاي كان قد استقبل الذكرى الخمسين لإنشاء الكيان الصهيوني بوضع حجر الأساس لمشروع إسكاني جديد تضمّن توسيع مستوطنة بيت ـ إيل شمال القدس، على مرمى حجر من رام الله. وقال الوزير (الذي كان يحظى بصفة «المعتدل» في الإدارة الأمريكية، للتذكير المفيد!) إنّ «أبناء بيت ـ إيل لهم الحقّ في تشييد البيوت هنا، تماماً مثل حقّ أبناء نيويورك وباريس وتل أبيب». ولأنّ التدشين جاء بمناسبة مقتل اثنين من المستوطنين، إضافة إلى الذكرى الخمسينية إياها، قال مردخاي: «ليعلم القتلة ومَنْ أرسلوهم أننا سوف لن نكتفي بمطاردتهم وعقابهم، بل سوف نواجههم أيضاً بمزيد من البناء». وبالفعل، لم تكفّ مشاريع التوسيع الاستيطاني عن دقّ مسمار خلف آخر في نعش ما تبقى من أكذوبة «عملية السلام» الإسرائيلية ـ الفلسطينية، فحسب؛ بل باتت إحدى صنوف الحرب اليومية التي يشنها الاحتلال ضد الوجود الفلسطيني في مناطق الضفة الغربية كافة.
حكاية أخرى، من الذكرى الخمسينية ذاتها، أماطت اللثام عنها «هآرتز» أيضاً، ضمن حوار أجرته مع الجنرال المتقاعد عوزي ناركيس (قائد الوحدات الإسرائيلية التي استولت على القدس سنة 1967)، ونشرته بعد أن تحقق شرط الجنرال في تأجيل النشر إلى ما بعد وفاة جميع الأشخاص الذين تطالهم الوقائع (وكان هو نفسه قد توفي ساعتئذ). تقول الحكاية إنه بعد ساعات معدودات من استيلاء القوات الإسرائيلية على القدس القديمة في حزيران (يونيو) عام 1967، حثّ كبير حاخامات الجيش الإسرائيلي آنذاك، شلومو غورين، على تدمير قبّة الصخرة وتقويض المسجد الأقصى. ولقد دار الجدل التالي بين الحاخام وناركيس، وفق رواية الأخير، في ساحة المسجد الأقصى:
ـ الحاخام: الآن هو الوقت المناسب لوضع 100 كغ من الموادّ الناسفة، وتدمير مسجد عمر، وتخليصنا منه مرّة وإلى الأبد.
ـ الجنرال: كفى أيها الحاخام!
ـ الحاخام: ولكن يا عوزي اسمك سوف يدخل التاريخ من أوسع أبوابه!
ـ الجنرال: اسمي دخل لتوّه في كتب التاريخ الخاصة بأورشليم.
ـ الحاخام: أنت لا تدرك المغزى الهائل لهذا الفعل. هذه فرصة يتوجب اغتنامها الآن بالذات. غداً سوف تفوت الفرصة نهائياً.
ـ الجنرال: إذا لم تكفّ عن هذا الكلام فسوف أصدر أمراً باعتقالك.
وتقول بقية الحكاية إنّ هذا الحوار تناهى إلى أسماع الجنرال موشيه ديان، وزير الدفاع آنذاك، وأنه لم يتخذ أيّ إجراء رادع بحقّ الحاخام، بل بالعكس: سمح له أن يلقي خطبة لاهبة أمام عدد كبير من الضباط، قال فيها بالحرف: «إنها لمأساة أن تكون إسرائيل قد تلكأت في تدمير مسجد عمر».
معروف، من جانب آخر، أنّ مفهوم الاستيطان عند الإسرائيلي الناشط الإسكاني الاستملاكي يختلف عن هوس عالم الآثار الإسرائيلي ببسط نفوذ دولة الاحتلال على ما أمكن من مساحات جديدة في «أرض الميعاد»؛ خاصة حين تنقلب الحفريات إلى ديانة ودين، وليس مجرد تنقيب في التاريخ الغابر لإضاءة أو استكمال حلقات غامضة في السجلّ والحوليات. وفي كتابه «نبيّ من بين ظهرانينا»، والذي يروي سيرة إيغال يادين المحارب وعالم الآثار و«صانع أسطورة إسرائيل الحديثة» كما يُلقّب، يشير نيل سيبرمان إلى إن التنقيب عن الآثار اليهودية في أرض فلسطين كان بمثابة «ترخيص شعري للاستيطان الإسرائيلي المعاصر»؛ بحيث باتت الرُقيمات والألواح المكتشفة أشبه بترانيم/ عقود ملكية، لعقارات الماضي والحاضر والمستقبل، مقدسة منزّلة مكتوبة بمداد الآلهة. وكيف تُنسى واقعة الخبل التي جعلت المدير العام للآثار والمتاحف في دولة الاحتلال يقطع ذلك الشوط القصير الأخير بين الحلم الأقصى والهستيريا المرَضية، فيقترح إعادة تحقيب التاريخ الإنساني على النحو (اليهودي) التالي: منذ الآن سوف نطلق على عصر الحديد اسم «عصر بني إسرائيل»، وعلى الهيلليني اسم «العصر الحشموني»، وعلى الروماني اسم «عصر المشناه»، وعلى البيزنطي اسم «العصر التلمودي…
ومن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، ثمّ بيل كلنتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما ودونالد ترامب، لكي نضع جانباً ريشارد نكسون وجيمي كارتر ورونالد ريغان؛ ومن واشنطن إلى كامب دافيد، ومدريد، وأوسلو، وواي بلانتيشن، وشرم الشيخ، وطابا، وأنابوليس… ظلّ القمر (حسب مجاز الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات)، أسهل منالاً من زحزحة دولة الاحتلال قيد أنملة في مسألة الاستيطان، ومفهوم المستوطنة، وحقّ العودة، وتحديد جغرافية مدينة القدس بوصفها «عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة… وفي كلّ مرّة كانت عبقرية ما، على الجانب الفلسطيني الرسمي، تتفتق عن ذهن مفاوض أريب هنا، أو قيادي لوذعي هناك، لتبرير الخطوة الأحدث في درب انحناء السلطة؛ وعودتها صاغرة إلى طاولة مفاوضات لا تستأنف إلا ترخيص المزيد من الاستيطان! ويحدث، أو قد حدث دائماً في الواقع، أنّ يتطلب الإخراج توفير تغطية أمريكية ـ عربية، وأحياناً دولية محفلية يختلط فيها الحابل بالنابل (كما في مؤتمر أنابوليس، خريف 2007، حين ارتأى بشار الأسد أنّ فضيلة «الممانعة» لا تمنع هرولة نظامه إلى ذلك المؤتمر، والمشاركة في أشغال الهفت والتهافت).
يبقى أنّ الوجدان اليهودي في أطوار ما بعد الصهيونية، لكي نستخدم المصطلح الرائج إسرائيلياً، بمساوئه الدلالية ومحاسنه السياسية؛ يتحاور اليوم مع ذاته لإعادة الدولة الصهيونية إلى ما قبل الصهيونية، أي إلى حلم واحد طويل مستديم لا يصحو منه اليهودي إلا لكي يعاقب العالم الخارجي غير اليهودي، عالم الـ «غوييم» بعبارة فقهية أدقّ، على الآثام المقترفَة بحقّ الحلم. وإذا كان مطلوباً من العالم أن يسهر على أمن الإسرائيلي وهو يغرق في الحلم المستديم ذاك، فإنّ المطلوب في المقام الثاني هو وقوف العالم مكتوف الأيدي تماماً أمام انقلاب الحلم إلى كابوس كولونيالي استيطاني عند الشعب صاحب الحقّ الأصلي في أرض الحلم، وانقلاب الـ «غيتو» إلى «كيبوتز»، والحالم/ الضحية إلى حالم/ جلاد… من طراز أرييه كنغ، ساكن مستعمرة نوف تسيون!
وسوم: العدد 853