الفقير. . والمسكين
ذكرنا في العدد السابق ، أنه للوصول إلى فهم موحد لكتاب الله ، لابد من التزام منهج صارم في التفسير يقوم على أمرين:
- مراعاة نظم الكلام .
– اعتبار تفسير القرآن بالقرآن أصلا في بيان معاني الكلمات القرآنية ، واعتبار أسلوب القرآن قاعدة حاكمة في اختيار المعاني وترجيح بعضها على بعض....
ثم قلنا: إن مثل هذا المنهج يحتاج إلى توضيح بالأمثلة ، وأرجأنا ذلك إلى فرصة أخرى......))
ونختار في هذا العدد مثالا يوضح هذا المنهج ، وهو متعلق بمعنى ((الفقير)) و ((المسكين)) الواردين في قوله تعالى من سورة التوبة:
((إنما الصدقات للفقرآء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم))(1) .
قال أبو جعفر النحاس في معنى ((الفقراء والمساكين)) في هذه الآية:
اختلف في ذلك أهل التأويل ، والفقهاء ، وأهل اللغة ، وأهل النظر ، فقالوا في ذلك أحد عشر قولا:
-الأول- روي عن قتادة - قال:
الفقراء الذين بهم زمانة. والمساكين: الأصحاء المحتاجون.
-الثاني-قاله الضحاك- قال:
الفقراء: فقراء المهاجرين. والمساكين: من لم يهاجر.
-الثالث-قال به عكرمة- قال:
الفقراء: من اليهود والنصارى. والمساكين: من المسلمين.
-الرابع- قاله عبيد بن الحسن- :
المساكين: الذين عليهم الذلة والخضوع. والفقراء: الذين يتجملون ويأخذون في السر.
-الخامس-قاله محمد بن مسلمة- :
المسكين: الذي لا شيْ له. والفقير: الذي له المسكن والخادم.
-السادس- قاله الشافعي- قال :
الفقير –والله أعلم-: من لا مال له ، ولا حرفة تقع منه موقعا ، زمنا كان أو غير زمن ، سائلا كان أو متعففا. والمسكين: من له مال أو حرفة لا تقع منه موقعا ، ولا تغنيه ، سائلا كان أو غير سائل))(2) .
-السابع-قاله أبو ثور- :
الفقير: الذي له شيْ. والمسكين: الذي لا يصيب من كسبه ما يقوته.
-الثامن-قاله أهل اللغة :
- المسكين: الذي لا شيْ له. والفقير: الذي له شيْ لا يكفيه. قال يونس: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ فقال: لا. بل مسكين. وأنشد أهل اللغة:
أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد(3)
- التاسع-روي عن ابن عباس- :
المساكين: الطوافون. والفقراء: فقراء المسلمين. وقال فيه النحاس: من أجل ما روي فيه.... وأكثر أهل التأويل على هذا القول....
-العاشر-قال به بعض أهل النظر- :
الفقير:هو الفقير إلى الشيْ ، وإن كان يملك مالا ، فقد يكون غائبا عنه ، ويكون فقيرا إلى أخذ الصدقة. والمسكين: الذي عليه الخضوع والذلة. -- الحادي عشر: الفقير: هو الذي يعطي بفقره فقط. والمسكين: الذي يكون عليه مع فقره خضوع وذلة السؤال.....))(1).
هذا ما ذكره أبو جعفر النحاس من أقوال على سبيل الإيجاز والاختصار ، ولو ذهبنا نستقريْ كل ما قيل في الفقير والمسكين لوجدنا أقوالا أخر ذكرتها كتب أحكام القرآن وكتب الفقه ، و المقصود هنا بيان مدى تعدد الأقوال وكثرتها ، لا استقصاء كل ما قيل.
ثم نجد أن الفقهاء ينقسمون إلى قسمين في الفقير والمسكين: أيهما أحوج من الآخر:
- فبعضهم يرى أن ((الفقير)) أشد حاجة من ((المسكين)) من قبل أن الله تعالى بدأ به ، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم- وبهذا قال الشافعي والأصمعي.
- وذهب أبو حنيفة إلى أن المسكين أشد حاجة ، وبه قال الفراء وثعلب وابن قتيبة لقول الله تعالى:
((أو مسكينا ذا متربة))
وهو المطروح على التراب لشدة حاجته. وأنشدوا:
أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد
ويقول ابن قدامة: ولنا أن الله تعالى بدأ بالفقراء ، ليدل على أنهم أهم ، وقال تعالى:
((أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر))
فأخبر أن المساكين لهم سفينة يعملون بها ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين)) .
وكان يستعيذ من الفقر....، ولأن الفقر: مشتق من ((فقر الظهر)) فعيل بمعنى ((مفعول)): أي: مفقور.... والمسكين: ((مفعيل)) من السكون ، وهو الذي أسكنته الحاجة. ومن كسر صلبه أشد حالا من الساكن....))(2) .
وهكذا كل فريق ينتصر لرأيه بأدلة ، ويرد أدلة الفريق الآخر ، وتبقى القضية معلقة في ذهن القاريْ وربما يميل أهل كل مذهب إلى التمسك برأي مذهبهم دون المذهب الآخر.
ولا شك بأن كل فريق يحاول أن يجد تأييدا لرأيه من بعض الآيات القرآنية أو من الأحاديث النبوية ، أو من أقوال علماء السلف ، ولكن ذلك كله لم يحسم الأمر ، ولم يحل المشكلة ، و بقيت القضية تحتمل القولين.
ولو أننا طبقنا المنهج الذي أشرنا إليه سابقا ، واستقرأنا استعمال القرآن للكلمتين فماذا نجد:
- نجد قوله تعالى في الآية/ 184 من سورة البقرة:
((وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين))
- وقوله تعالى في الآية/34/ من الحاقة:
((ولا يحض على طعام المسكين))
- وقوله تعالى في الآية /44/ من المدثر:
((ولم نك نطعم المسكين))
-وقوله تعالى في الآية /18/ من الفجر:
((ولا تحضون على طعام المسكين))
-وقوله تعالى في الآية /3/ من الماعون:
((ولا يحض على طعام المسكين))
-وقوله تعالى في الآية /4/ من المجادلة:
((فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم))
-وقوله تعالى في الآية الثامنة من سورة الإنسان:
((ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا))
-وقوله تعالى في الآيات /14-16 من سورة البلد:
((أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكنا ذا متربة))
-وقوله تعالى في الآية /89/ من المائدة:
((فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم))
- وقوله تعالى في الآية /95/ من المائدة:
((.... أو كفارة طعام مسكين....))
ويلاحظ في كل هذه الآيات اقتران الإطعام بالمساكين .
وفي واحدة منها: اقتران الإطعام أو الكسوة في كفارة اليمين.
وهذا إن دل على شيْ فإنما يدل على أن المسكين: هو الذي يحتاج إلى الطعام أو إلى الكسوة ، ومن ثم نجد أن الكفارات كلها تنص على المساكين.
بينما نجد الآيات التي ذكر فيها ((الفقير)) أو ((الفقراء)) لم يذكر فيها الإطعام إلا مرة واحدة وذلك في قوله تعالى في الآية الثامنة والعشرين من سورة الحج:
((... فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير)).
والذي لا شك فيه أنه يمكن استعمال إحدى الكلمتين مكان الأخرى على سبيل التجوز ، وعند انفراد إحداهما عن الأخرى في الذكر ، أما عند اجتماعهما فلا بد من التفريق بينهما ، كما هو الشأن في هذه الآية.
والفقير أعم من المسكين ، لأنه المحتاج مطلقا ، وعلى هذا يمكن أن يعبر بالفقير عن المسكين على هذا الأساس ، والمسكين أخص من الفقير ، لأن المراد به المحتاج إلى الطعام والكساء من الضروريات .
وبناء على هذا يكون قوله تعالى:
((إنما الصدقات للفقراء والمساكين....))
أفرد فيه ((المساكين)) بالذكر بعد ((الفقراء)) من باب عطف الخاص على العام ، تأكيدا لأهميتهم وشدة حاجتهم ، وذلك كما في قوله تعالى:
((تنزل الملائكة والروح))
حيث أفرد الروح بالذكر مع دخوله في الملائكة ، بيانا لأهميته.
وأما قوله تعالى:
((أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر))
فقد قيل في توجيهها أقوال:
منها:أنها أضيفت إليهم لأنهم يعملون فيها ، وليست الإضافة هنا إضافة ملك...
ومنها: أنه سماهم مساكين على سبيل الشفقة عليهم من الملك الظالم.
ومنها: لو صحت إضافة الملك ، فإنهم جمع كبير ، وما يصيب الواحد منهم من ملكيتها لا يعتد به نظرا لقلته.
وأما استشهادهم بحديث :
((اللهم أحيني مسكينا))
فالحديث ضعيف ولا يصلح للاحتجاج ، ولفظه لا يصح كما ذهب إلى ذلك ابن تيميه ، ويحمل معناه على التواضع على شدة الفقر)).
وهكذا نرى أن مثل هذا المنهج كفيل بأن يوصلنا إلى قول فصل في مثل هذه القضايا التي تكثر فيها الأقوال ، وتتعدد الاجتهادات.
وبذلك يكون القرآن حكما بينها ، لا محكوما فيها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وسوم: العدد 853