يوفال هراري وحرائق بشار الأسد
لا يتيح هذا العمود، ولا المقام استطراداً، الحدود الدنيا من التعمق في مناقشة عمل الفيلسوف والمؤرّخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري، مؤلف «العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري»، و«الإنسان الإله: تاريخ موجز للغد»، و«21 درساً للقرن الحادي والعشرين»؛ وهي الأعمال التي تُرجم بعضها إلى عشرات اللغات، بما في ذلك العربية، وحوّلت الرجل إلى ظاهرة. لقد انقلب، خلال سنوات معدودات وعبر ثلاثة إصدارات وحفنة محاضرات ولقاءات متلفزة، إلى باب تأويل الثورة المعرفية خلال 70 ألف سنة من عمر الإنسانية، وحول حاضرها ومستقبلها أيضاً؛ في غمرة إعجاب كوني لم يخلُ من الدهشة وحسّ الاكتشاف وطواعية التسليم، شمل عشرات المشاهير في السياسة والمال والفنون والعلوم، ولم تعد دوريات رصينة تتردد في منحه صفة «المفكر الحيّ الأهمّ على نطاق العالم».
كذلك لا تتوخى هذه السطور استعراض الحدّ الأدنى من التحفظات الشخصية على عمل هراري، وهي ليست قليلة، جوهرية غالباً من منطلق ما أحمل من قناعات حول تاريخ النوع البشري، ومن نافل القول أنني أسجّل هذا التفصيل بتواضع أقصى أوّلاً، وبحيازة تامة للحقّ في الاختلاف تالياً. وسوى المسائل العويصة، العلمية البيولوجية والفكرية الإيديولوجية، لست أجد تفسيراً كافياً يبرر موافقة الرجل على صدور الترجمة الروسية لكتابه «21 درساً للقرن الحادي والعشرين» خالية من الفقرات التي تستعرض أكاذيب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كما وردت في الأصل العبري، على سبيل المثال. ورغم انتقاداته الدائمة لسياسات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، لجهة إفساد «الديمقراطية الليبرالية» الإسرائيلية خصوصاً، فإنّ خلاصة مواقفه من الحقوق الفلسطينية والتيارات المسماة «ما بعد الصهيونية» ليست البتة في مستوى جسارته على انتهاك الثوابت الكبرى بصدد تاريخ النوع البشري.
مناسبة هذه السطور هي أنّ هراري، في استفتاء أجرته صحيفة «الغارديان» البريطانية مؤخراً، اعتبر أنّ كتاب «الأسد أو نحرق البلد»، للصحافي سام داغر، والذي صدر بالإنكليزية قبل أشهر قليلة ضمن منشورات هاشيت، نيويورك؛ هو أهمّ قراءاته خلال العام 2019. وفي تبرير اختياره هذا كتب هراري: «عرض مؤثر ومتبصّر حول الحرب الأهلية السورية، وهي النزاع الذي دمّر بلداً، وأعاد تشكيل الشرق الأوسط، وزعزع استقرار النظام العالمي بأسره. ففي سعيه إلى النجاة تحت أيّ ثمن، ظلّ نظام الأسد مستعداً لتدمير بلده ذاته وقتل مئات الآلاف من مواطنيه أنفسهم. وقبل زمن طويل من صعود داعش، حين لم تُواجَه إلا بمتظاهرين سلميين، أمرت عائلة الأسد بارتكاب المجازر وتدمير بلدات بأسرها. كان الروس والإيرانيون سعداء أيضاً بمرأى سوريا وهي تحترق بدل أن تفلت من قبضاتهم. والوحيدون الذين كانوا قادرين ربما على إطفاء اللهيب، أي القوى الغربية، كانوا لتوّهم قد أحرقوا أصابعهم في العراق وليبيا، فامتنعوا بالتالي عن القيام بفعل حاسم».
أعترف، بادئ ذي بدء، أنني فوجئت بهذا الاختيار، من جانب هذا الرجل تحديداً؛ إذْ في وسع المرء أن يستعرض عشرات المؤلفات التي نُشرت خلال العام 2019 وكانت أقرب إلى ذائقة هراري واهتماماته ونطاق اشتغال أفكاره. ثمة، إذن، انحياز واضح إلى ملفّ مفتوح راهن، عربي وليس إسرائيلياً أو غربياً أو عالمياً؛ جيو ــ سياسي وإنساني يصف نظاماً وحشياً، بقدر ما ينصف شعباً وقع ضحية نظام إرهابي قبل أن تجتاحه موجات الجهاد الإرهابية. ولم يكن أقلّ مفاجأة أن يختم هراري تقريظه لكتاب داغر هكذا: «السؤال الذي طُرح في حلب وحمص سوف يبقى مخيماً على الإنسانية في العقود المقبلة. كيف التعامل مع نظام يأخذ شعبه ذاته رهينة، ولا يعبأ بأيّ أمر آخر سوى نفسه؟ حين واجه النظام السوفييتي الانهيار في الثمانينيات، نجا العالم لأنّ السوفييت ــ رغم أكاذيبهم ودعاوتهم ــ حافظوا مع ذلك على بقايا التزام أخلاقي بالإنسانية. ولعلنا في المستقبل لن نمتلك ذلك الحظ».
العارف بشؤون الانتفاضة الشعبية السورية وشجونها، بداياتها ومساراتها ونهاياتها الراهنة، قد يتفق مع تشخيصات هراري في كثير أو قليل؛ ولعل مواطناً سورياً، مثلي، سوف يضع علامات استفهام حول المعمار الفكري والسياسي والأخلاقي، قبل ذاك اللغوي المحض، الذي اتكأ عليه هراري في نسب الشعب والبلد إلى النظام («بلده ذاته»، «مواطنيه أنفسهم»، «شعبه ذاته»…)؛ من دون أية إشارة إلى طابع النظام، الاستبدادي الوراثي الفاسد التابع ذي التوجّه الطائفي. المؤرّخ، فما بالك بالفيلسوف الذي يتنطح لرؤية كونية، ملزَم بإشارة كهذه، ليس لأنها واجبة بالضرورة السياسية والتاريخية، فحسب؛ بل لأنّ تغييبها يخلّ بمنطق النسق ويُضعف بنيته أيضاً. غير أنّ المرء، أياً كان تقييمه لكتاب داغر ومصادر معلوماته (مناف طلاس، بصفة خاصة)، فإنّ فصوله واحدة من أوضح الإدانات ضدّ النظام، وأكثرها احتواء على تفاصيل وقائعية وميدانية.
وبهذا المعنى فإنّ ذهاب هراري إلى الحرائق التي أشعلها النظام في سوريا، التي للسوريين وليست ولم تكن يوماً لبيت الأسد، كما يقول هتاف شهير ابتدعته الانتفاضة؛ إنما يخرق حالة من شبه إجماع أكاديمي إسرائيلي على «تغنيج» النظام، والتغنّي بسلسلة صفاته، الكاذبة الزائفة («العلمانية»، «الاستقرار»، «الانفتاح»…)؛ التي لا تحجب حقيقة ساطعة رددها نتنياهو مراراً، وقبله أرييل شارون وإيهود باراك وإسحق رابين ومناحيم بيغن: أنه لا مشكلة لدولة الاحتلال مع البيت الأسدي، فكيف حين… يحرق البلد!
وسوم: العدد 856