أصدروا ما يحلو لكم من قرارات شيء واحد باق… الشعب الفلسطيني

العرب ينفعلون بسرعة وسرعان ما تهمد انفعالاتهم، هذا ما يظنه الإسرائيليون وهذا ما يظنه أيضا الامريكيون وآخرون. وهذا ما يأخذونه في الحسبان، ويعتمدون عليه في أي قرار يتخذونه بخصوص الشرق الأوسط، ولاسيما القضية الفلسطينية وهم على قناعة مترسخة بأنهم يعرفوننا، أو بالأحرى يعرفون طرق تفكيرنا أكثر من أنفسنا، ألم نخضع لاستعمارهم عشرات السنين؟ بالتأكيد لم يكونوا خلال هذه السنين يأكلون ويشربون فحسب.

وفي بعض الأحيان أو في الكثير من الأحيان أرى أنهم على حق في ما يعتقدون، وأنهم حقا يعرفون أكثر منا طرق تفكيرنا وردود أفعالنا وانفعالاتنا العاطفية ،فقد قالها وزير الخارجية الأمريكية السابق تيد تيلرسون، عقب قرار الرئيس ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، إن ردود الفعل متوقعة، وأنها ستهدأ بعد حين، وهذا ما حصل فعلا فبعد نحو أسبوع، هدأت الأوضاع وعادت الحياة الى طبيعتها. هذا على الصعيد الفلسطيني، أما على الصعيد العربي والإسلامي فلم تكن ردود الأفعال على مستوى الحدث. وجاءت ردود الأفعال أقل مستوى، عند نقل مقر السفارة من تل أبيب إلى القدس في مايو 2018، التي كانت هدية بمناسبة الذكرى السبعين لقيام الكيان الصهيوني.

وغابت ردود الأفعال العربية والإسلامية، على قرار إلحاق القنصلية الأمريكية العامة في القدس، التي كانت بمثابة بعثة دبلوماسية معتمدة لفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، وازدادت أهميتها بعد اتفاق أوسلو، وكانت تتمتع باستقلالية عن السفارة وتعتبر بمثابة السفارة الأمريكية لدى السلطة الفلسطينية، وهي قائمة منذ عام 1844.

وحتى على صعيد الانتهاكات الإسرائيلية في المسجد الأقصى، فقد تلاشت تقريبا ردود الأفعال على الاقتحامات اليومية للمستوطنين للحرم القدسي، تحت حماية جيش الاحتلال ورجاله ومخابراته. وأصبح مشهد المستوطنين وهم يتجولون في أنحاء الأقصى مألوفا، إلى حد ان التقسيم الزماني للأقصى أصبح أمرا واقعا. وهم يعملون الآن على تطبيق السياسة نفسها لتقسيمه مكانيا، كما حصل في الحرم الإبراهيمي في الخليل، عبر السيطرة على مصلى باب الرحمة، الذي يسعون لتحويله إلى كنيس، وبه يحصلون على موطئ قدم، وهذا كل ما يحتاجون كخطوة أولى نحو التقسيم المكاني، على طريق بسط سيطرتهم على كامل الأقصى وبناء الهيكل المزعوم..

وهم في ذلك يعتمدون على الظنون والمعتقدات نفسها، العرب انفعاليون يهبون كشعلة نار سرعان ما تخمد وتصبح رمادا منثورا. وينسون ويعودون إلى حياتهم اليومية بحلوها ومرها، والأغلب مرها، وكأن شيئا لم يكن. وهناك أمثلة كثيرة على قرارات الاحتلال القائمة على أساس هذه الظنون. وعلى القاعدة نفسها جاء إعلان مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي حول تغيير سياسة أمريكية قائمة منذ عام 1978 تعتبر المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير شرعية، وتتناقض مع القانون الدولي لتصبح بجرة قلم مستوطنات شرعية ولا تتناقض مع القانون الدولي. وفي هذا السياق يأتي قرار البرازيل افتتاح مكتب تجاري دبلوماسي في القدس كخطوة على طريق نقل السفارة إليها، وسبقها الى ذلك عدد من الدول منها، هندوراس في سبتمبر الماضي، والمجر في مارس الماضي. وما كانت هذه الدول لتقدم على مثل هذه الخطوة لو أنها أحست بوجود إجراءات عقابية من الجانب العربي، ممثلا بجامعة الدول العربية التي تكتفي، كما العادة، بالرفض اللفظي والإدانة ودعوات الى التراجع عن قرارها.

لكن رغم ما تقدم ورغم أنهم قد يقرأوننا، كما الكتاب المفتوح، وقد يعرفون الكثير من عاداتنا وتقاليدنا، لكن كما يبدو غابت عنهم حقيقة واحدة وهي، أنه لا يزال هنا بعض من كرامة، وروح مقاومة، فشلت إسرائيل وعلى مدار عقود من الاحتلال في قتلها واجتذاذ جذورها. كما أن أكثر من52 سنة من الاحتلال للضفة الغربية، فشلت في ترويض الشعب الفلسطيني الذي ظل أجيالا بعد أجيال يقاوم، وسيواصل مقاومته بجميع الأشكال والأنماط، حتى نيل حقوقه كاملة غير منقوصة، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين.

وحقيقة أخرى أن الأجيال التي فتحت عيونها على الاحتلال وجنود الاحتلال، تخلصت من عقدة الخوف من الجيش الذي لا يقهر، الجيش الذي ألحق الهزيمة بثلاثة جيوش عربية في حرب حزيران عام 1967، ليرسخ مقولة الجيش الذي لا يقهر. نعم تخلصت هذه الأجيال من عقدة الجيش الذي لا يقهر، الذي يواصل عربدته في سوريا والعراق وربما اليمن. فقد هذا الجيش هيبته وأصبح هو يهاب من انتفاضة قادتها أطفال فلسطين، الذين كانوا يواجهون دبابته بالحجارة، وجاءت الانتفاضة في عام 1987 ردا على دهس جيش الاحتلال 7 فلسطينيين في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، انتفاضة سرعان ما امتدت نيرانها إلى الضفة الغربية. انتفاضة دخل اسمها التاريخ العالمي وقاموسي كامبريدج وأكسفورد، انتفاضة ظلت مستعرة حتى جاء اتفاق أوسلو المشؤوم عام 1993 ليطفئ شعلتها. وربما كان إخماد لهيبها الذي عجز عنه جيش الاحتلال على مدى نحو 6 سنوات، أحد أهداف هذا الاتفاق انتفاضة أعادت القضية الفلسطينية إلى الخريطة السياسية العالمية، كما أعادت الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي كان الزعماء العرب في عمان بدفع خارجي يسعون لشطبها.

ونذكّر أيضا بانتفاضة الأقصى في أواخر سبتمبر عام2000 عندما هب الشعب الفلسطيني ردا على تدنيس المسجد الأقصى بقدمي أرييل شارون، صاحب التاريخ الملطخ بدماء الفلسطينيين العزل، من مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت في عام 1982 وتاريخه الأسود في قطاع غزة في سبعينيات القرن الماضي، ومجزرة قبية في الضفة في خمسينياته، وسرعان ما تحولت إلى انتفاضة مسلحة قتل فيها نحو ألف إسرائيلي واستشهد نحو 4 آلاف فلسطيني، ونجحوا في إنهائها باغتيال الرئيس ياسر عرفات عام 2004.

ولم تتوقف المقاومة الفلسطينية، سواء في الضفة أو غزة، وتواصلت على شكل هبات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر هبة النفق عام 1997، الذي حفرته إسرائيل تحت الحرم القدسي الأقصى، التي سقط فيه نحو75 شهيدا معظمهم من رجال الأمن الفلسطينيين، وقتل فيها نحو 15 جنديا إسرائيليا. وهبة القدس وهبة مصلى باب الرحمة، إلخ.

وأخيرا فإنه وقبل ما يسمى الربيع العربي، كانت بعض الشعوب العربية تتفاعل مع ما يجري في فلسطين، وتتحرك تضامنا مع أهلها، وانعكس ذلك خلال الانتفاضات والحروب التي شنتها دولة الاحتلال ضد قطاع غزة (ثلاث حروب في غضون ست سنوات) وأعمال القتل والذبح والاعتقالات في الضفة الغربية، وعملية التهويد والتدمير الممنهج للوجود الفلسطيني في القدس المحتلة، ومناطق الأغوار، تضاف إلى ذلك الاعتداءات المتواصلة على المقدسات الإسلامية. جاء «الربيع العربي» ليشغل شعوبها بمشاكلها ليقلل الى الحد الأدنى تلك التفاعلات التي كانت أصلا محدودة بسبب الإجراءات القمعية، التي كانت ولا تزال تمارسها الأنظمة، ولم يبق يمارس هذه التفاعلات سوى شعب الأردن، بسبب الظروف وخصوصية العلاقات التي تربطه بالشعب الفلسطيني.

أما الشعوب الخليجية فمحرم أصلا عليها التظاهر، الذي عادة ما يوصف بأعمال شغب وإلحاد، وخروج على الحاكم إلخ، بينما يحرمها شيوخ السلاطين بالمطلق ويعتبروها رجسا من عمل الشيطان، لا بد من اجتنابه. أما من تسول لهم أنفسهم الخروج عن أوامر أولياء الأمور، فلا يلومون إلا أنفسهم والمناشير الكهربائية بانتظارهم، وعليكم بالصحافي جمال خاشقجي مثلا يا أولي الألباب، الذي لا يعترف النظام السعودي بمكان دفنه، رغم مرور نحو15 شهرا على تقطيع جسده في قنصلية بلاده في إسطنبول، وإخفاء الجثة المقطعة بما فيها الرأس، وهناك من يقول إن جثة الخاشقجي أوذيبت بالأسيد.

وأختتم بالقول إن بإمكان إدارة ترامب والحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل وحلفائهما، اتخاذ ما يحلو لهما من القرارات والخطوات، لكن الشيء المؤكد ان الشعب الفلسطيني سيظل متمسكا بحقوقه طال الزمان أم قصر، وان انتفاضاته لن تتوقف وستكون الانتفاضة المقبلة وهي وشيكة أقوى بأضعاف من الانتفاضات السابقة، لأنها ستكون حقا أم الانتفاضات، انتفاضة التخلص من الاحتلال ونيل الاستقلال. وإن غدا لناظره قريب.

وسوم: العدد 856