القرن العشرون ومصرع الرجل المريض " الخلافة العثمانية "
لقد شهد القرن العشرون مصرع الرجل المريض " الخلافة العثمانية " بعد أن تم
نجاح المؤامرة الكبرى التي خططت لها دوائر الصهيونية العالمية بالاتفاق مع دول الاستعمار الغربي والتي نفذتها الحركات المناوئة للإسلام داخل الدولة العثمانية مستغلة التناقضات الكثيرة التي برزت على الساحة نتيجة الأفعال وردود الأفعال المضادة ، والتي كانت بتحريض وإغراء من القوى المشار إليها ، حيث اعتمدت أسلوب إثارة النعرات القومية والطائفية والعنصرية بين شعوب دولة الخلافة ، ومنت هذه الشعوب بإقامة كيانات خاصة ودول مستقلة ، كما وعدتها بمد يد العون والمساعدة في حال ثورتهاوانتفاضهاعلى دولة الخلافة .
ومع الإعتراف بذلك كله ، فلا نستطيع أن نعفى دولة الخلافة من المسؤولية عما حدث ،
وذلك لأن القوى الخارجية لم يكن بإمكانها أن تقوم بكل ماقامت به من كيد وعدوان ، لولم تكن الأمور قد مهدت لها من الداخل ، وذلك بسبب الأمراض التي نزلت بالرجل المريض وأرهقت كاهله ، وجعلته يئن تحت وطأتها ، ومهدت السبيل أمام الجراثيم المتربصة به ، المتطلعة للانقضاض عليه والفتك به . ونجحت المؤامرة ، وتم التنفيذ وفقا للخطة المحكمة ، وأسفرت المعركة عن انفراط عقد الخلافة ، وقامت الدولة التركية الكمالية على أنقاضها ، واجتهدت السلطة الكمالية في الابتعاد بالدولة الجديدة عن كل مايصلها بالإسلام والعربية ، وعملت على إبعاد الشعب التركي عن عقيدته ودينه ، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك حينما قطعته ،عن تاريخه وتراثه الثقافي بتغييرها لحرف لغته العربي إلى الحرف اللا تيني ، وتم كل ذلك عن طريق البطش والإرهاب ، وبأسلوب القوة القاهرة التي تفرض الرأي بالحديد والنار.....
أما الدول العربية التي كانت تمَني نفسها بدولة عربية كبرى بعد سقوط دولة الخلافة
فلم تكد تلقي سلاحها الذي رفعته في وجه الخلافة ، حتى وجدت نفسها دويلات ممزقة تحت سيطرة الدول الغربية ، وسار الاستعمار الغربي في هذه الدويلات بسياسة التغريب ، ففرض قوانييه التي حملها معه ، وأنشأ المدارس التي تدرس ثقافته ولغته ، وعمل على إضعاف اللغة العربية والثقافة الإسلامية ، وأنشأ جيلا من المثقفين ضعيف الصلة بثقافته وعقيدته ودينه ، قوي الصلة بثقافة الغرب ، ليتولى الأمر من بعده ، وليعمل على ترسيخ منهج التغريب بعيدا عن الشريعة الإسلامية ، وعن كل ما يمت إليها بصلة ، وقد تحقق كل ذلك بفضل تلك البذور التي بذرها الاستعمار في الأرض العربية قبل رحيله ، فوجدنا من العرب بعد ذلك من يعمل على تفويض دعائم الشريعة الإسلامية ، ومن يعمل على محاربة اللغة العربية والحرف العربي ، ومن يدعو إلى الإرتماء في أحضان الغرب بالكلية ، ومن يطرح بديلا للإسلام ، ومن يعمل على إثارة الأقليات على الأكثرية
، ومن يثير النعرات الطائفية والقومية والعنصرية ، ومن يشكك بعقيدة الأمة وتاريخها وتراثها ، ومن يعمل على تغيير هويتها وتحويل مسارها . ومن ينظر في الواقع العربي اليوم ومافيه من تمزق وتشرذم وما آلت إليه الأمور من انقسامات وخلافات على كل المستويات ، ويقارن هذا الواقع بذلك الأمل الذي كان يراود العرب يوم أن حملوا السلاح على دولة الخلافة من قيام دولة عربية كبرى يرى كم حققت سياسة التغريب تلك من أحلام الاستعمار وكم أحبطت من آمال العرب .
وكان طبيعيا أن يكون رد الفعل على ذلك كله دعوة إلى العودة إلى الاسلام وتطبيق
شريعته ، وأن يوجد من أجل ذلك تيارإسلامي يحمل لواء الحكم بما أنزل الله ويعمل جاهدا على تحقيقه ، وأن يستقطب حوله كثيرا من الناس الذين فجعوا بما انتهت إليه التطورات داخل الدول العربية والإسلامية ، كما كان طبيعيا كذلك أن يقوم الصراع بين التيارين المتعارضين : تيار التغريب العلماني ، وتيار الأصالة الإسلامي ، وأن تشتد حدة هذا الصراع كلما أحرز أحد التيارين تقدما على الآخر في بعض المواقع ، أو نازعه في شيئ من مكتسباته ومجالات نفوذه .......
وتشهد الساحة العربية والإسلامية في المرحلة الراهنة مدا إسلاميا عارما يتمثل في
الاستجابة الشعبية الواسعة لمبادئ الإسلام وقيمه ، وبالعمل على الإلتزام بشعائره وأخلاقه ، والمطالبة بتنفيذه أحكامه وشرائعه ، كما يتمثل بالنجاحات التي يححقها دعاة الإسلام في كل ميدان من الميادين التي يتنافسون فيها مع غيرهم من أصحاب الإتجاهات المخالفة .
ولم يعد الحديث عن " الصحوة الإسلامية " مما يخص العمل الإسلامي والقائمين به ،
وإنما أصبح حديث القاضي والداني ، والمسلم وغير المسلم ، ومن يرغب بتطبيق شريعة الإسلام ، ومن ينفر منها ويعمل على استبعادها . ومن يرى أن في تطبيقها حلا لمشكلات الأمة المستعصية ، ومن يرى أن مثل هذا التطبيق سيزيد من مشكلاتها ،ويضاعف من متاعبها ، ومن هنا يختلف الحديث باحتلاف انتساب الباحث وموقعه ووجهة نظره .
ولقد كثر في الآونة الأخيرة الحد يث عن ظاهرة الصحوة الإسلامية من أصحاب
الإتجاهات المخالفة ، شعوراً منهم بأن الأمر قد بلغ مرحلة الجد ، وأن تجاهل المد الإسلامي وقوته لم يعد ينفع ، وأنه لابد من الاعتراف بأنه أصبح أمرا واقعا ، وأن التعامل معه هو الطريق الذي لا طريق غيره ، وأن الحوار قد يكون أنجح الوسائل للتعرف على أهدافه ومن ثم فقد نشطت الأقلام لدراسة ظاهرة الصحوة ، وأفسحت الصحف مجالا واسعا للمقالات التي تتحدث عن حاضر الصحوة ومستقبلها ، كما قامت دراسا ت و ألفت كتب ، وعقدت ندوات وألقيت محاضرات
. وكان معظم من تكلم في ذلك يبدي تخوفا واضحا من هذه الظاهرة ، ويعطي انطباعا للقارئ بأن الأمة مقدمة على كارثة كبرى فيما لو أتيحت الفرصة للإسلام أن يحكم ، فهذا يرى أن حقوق الأقليات معرضة للخطر متناسيا أنهم عاشوا أربعة عشر قرنا في ظل الإسلام بأمان واطمئنان ! وذلك يرى أن منجزات الحضارة المتقدمة ستتحول إلى هشيم تذروه الرياح وهو يرى بأم عينه التفوق الساحق الذي يحرزه الإسلاميون من أصاب الحركات التخصصات العلمية على مستوى الجامعات وغيرها ، وآخر يرى أنه لابد لأصحاب الإتجاه الإسلامي أن يعلنوا برنامجا مفصلا لما ينوون عمله في حين لم تطالب حركة من الحركات الأخرى غير الإسلامية سواء التي وصلت إلى الحكم أو التي لم تصل بمثل هذا البرنامج التفصيلي !!!
وآخر يطالب بضمانات للحقوق حتى لاتهدر أو يساء فهمها وتطبيقها ، وحتى لاتكون الأمة
مكانا للتجربة مع أننا لم نسمع في يوم من الأيام من طالب الحركات الأخرى بمثل هذه الضامانات ، ومازالت الأمة موضعا للتجارب عندهم على امتداد الزمان والمكان ومنذ الاستقلالوحتى الآن !... إلى غير ذلك من المقولات والتي يحس قارئها من أن الإسلام إذا حكم ، فإن ذلك سيكون بمثابة كارثة كبرى تصيب البشرية ، وربما أتى ذلك على منتجات العلم والحضارة ومظاهر التقدم والعمران ، وهؤلاء يعلمون قبل غيرهم موقف الإسلام من العلم والحضارة ، وأن المنهج العلمي الصحيح إنما ولد وترعرع في أحضان الإسلام وأن التقدم العلمي الصحيح لم يعرفه الغرب إلا عن طريق الإسلام والمسلمين ، وأن الحضارة الغربية مدينة في ذلك للحضارة الإسلامية ، وأنه لولا الحضارة الإسلامية لتأخر ظهور الحضارة الغربية عدة قرون ....
ولن يكون بإمكاننا في مثل هذه العجالة أن نجيب عن كله شبهه ، ولا أن نبدد كل هاجسة
ولا أن نرد على كل وهم ، ولأنه ليس من منهج الإسلام أن نشغل أنفسنا بمثل هذه الصوارف التي تصرفنا عن العمل الحقيقي المنتج ، والتي تعيقنا عن الأوليات التي يجب أن نوجه إليها كل اهتماماتنا ، ولأن مثل هذا أمر يطول الكلام فيه ، ويحتاج إلى مقام غير هذا المقام ، وسنكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الضمانات التي يكمن أن يقدمها الإسلام لمن يطلبون الضمانات ، لا على سبيل الاستجابة للمطالب ، وإنما على سبيل بيان أن الإسلام ليس عاجزا عن تقديم كل مافيه طمأنينة للقلوب وقناعة للعقول ، وأنه لا بسترسل في الاستجابة لكل مايطلب إليه لأن أمامه برنامجه الذي لابد أن يسعى إلى تنفيذه ، ولا يجوز أن يشغل عنه بغيره :
يتمثل الضمان الأول بالحقوق التي كفلها القرآن الكريم لكل من يعيش في الدولة الإسلامية مسلماً كان أو غير مسلم ، والتي لايوجد دستور في الأرض يضمنها للأكثرية والأقلية كما يضمنها القرآن . ولا نريد أن ندخل في التفاصيل لأن مثل هذا الأمر يقرُبه كل باحث منصف بعيدٍ عن التعصب والهوى .
ويتمثل الضمان الثاني في أن التزام الحاكم المسلم بتطبيق شريعة الله أقوى من التزام
الحاكم العادي بتطبيق قانونه الوضعي لأن الحاكم المسلم يعتبر تطبيق شريعة الله جزءأً من الدين ، والإخلال بتطبيقها إخلال بتدينه ، وبالتالي فسيعرضه للمسؤولية أمام الله ، ويجعله مرشحاً لخطر العقاب ، في حين لن يشعر الحاكم بالقانون الوضعي بمثل هذا الشعور ، ولن يحسب للمخالفة القانونية مثل هذا الحساب .
ويتمثل الضمان الثالث في أن فهم النصوص الشرعية من قرآن وسنه ، يخضع لقواعد وضوابط لغوية وشرعية وأصولية تجعله بعيداً عن الأهواء والرغبات الشخصية ، ومن ثم فإن الاجتهادات في نطاق الشريعة محكومة بمعايير الشريعة نفسها ، وطالما أنها كذلك فهي اجتهادات لاتخرج عن إطار الشريعة ، بل تعتبر مظهراً من مظاهر حيوية الشريعة ومرونتها وغناها ، ويمكن للحاكم المسلم وأعوانه من أهل الشورى أن يختاروا من هذه الاجتهادات للتقنين ما يرونه أقرب لمقاصد الشريعة وأوفق لمصالح الناس ، وأكثر تمشياً مع متطلبات الحياة المتجددة . ومن هنا فلا مجال للانحراف في فهم النصوص الشرعية بدافع الأهواء الخاصة والرغبات الذاتية . وكل فهم ينحرف عن الأصول المقررة يعتبر خارج نطاق الشريعة وخارج الاعتبار الشرعي ، ويضرب به عرض الحائط ، ولا يكون له أي وزن أوقيمه .......
ولكن مع ذلك قد يقع هناك خطأ في الفهم نتيجه تصور من المجتهد وبنية حسنة ، وفي
مثل هذه الحالة فإن النقد العلمي الذي يتولاه العلماء وأهل الفقة كفيلٌ بأن يعيد المخطيء إلى صوابه ، أو يضع رأيه في المكانة التي يستحقها من درجة الاعتبار الشرعي . وفي كلا الحالين فلن يترتب على ذلك أي أثر سلبي .
ويتمثل الضمان الرابع في إمكانية الاجتهاد الجماعي في الشريعة ، حيث يمكن أن
تعقد لقاءات للعلماء والفقهاء على طريقة الندوات العلمية والمجامع الفقهية يناقشون فيها المسائل ، ويتبادلون الرأي حول القضايا المستجدة ، فيدلي فيها كل بدلوه ، ويعرض ما عنده ، ويبدي وجهة نظره ، وتخضع الآراء للأخذ والرد طبقا لأصول الاجتهاد المقررة والمتفق عليها ، ثم تكون الحصيلة رأياً واحداً يجمع عليه أهل الاجتهاد ، أو رأيأً يصدر بأكثرية الآراء ، أو غير ذلك من وجهات النظر ، ثم يكون هناك المجال للحاكم المسلم ولأهل الشورى في تبني الرأي الذي يتفق مع مقاصد الشريعة ويحقق مصالح الناس . وفي كل ذلك فلا مجال للرغبات والأهواء ، ولا مجال للمقارنة بين اجتهادات الفقهاء في الشريعة ، واجتهادات أصحاب القوانين الوضعية . والادعاء بأن كلاً منها عمل بشرى معرض للخطأ والصواب ، وأن كُلاً منهما يمكن أن يكون تشريعاً بشريا ، ذلك أن الاجتهاد في غير الشريعة اجتهاد في فهم نصٍ بشري قائم على القصور والجهل ، لأنه صادر عن الإنسان المتصف بصفات الجهل والقصور . والاجتهاد في النص الإلهي وإن كان عملاً بشريا إلا أنه محكوم بغاية النص الإلهي ومقاصده ، ولا يمكن أن يخرج عن ذلك ، ولا بد له من أن يؤكد صحة فهمه بأدلة مطابقةٍ للأصول الشرعية التي تجعله بعيداً عن الهوى والرغبة وإلا فإنه يكون مرفوضا .
ومن هنا فكل فهم يحتمله النص الإلهي وتقبله القواعد الأصولية الموضوعية لاستنباط
الأحكام الشرعية ، فإنه يكون معتبراً شرعا ، ولا يمكن أن يقاس به أبداً أي اجتهاد في نص قانوني وضعي ، لأن القصور هنا ليس في المجتهد فقط ، وإنما هو في أصل النص القرآني الغنيٌ بالمعاني الكثيرة والأحكام المتعددة التي تلبي حاجة البشرية في التوجيه والتشريع إلى يوم القيامة ، ومن ثمَ فلا يمكن أن يقاسَ به أيُ نصٍ آخر ، وهذا من إعجاز القرآن ، ومازال كُل قارئ متأملٍ في القرآن يجد فيه مثلَ هذه المعاني على اختلاف العصور، وعلى الرغم من كل ماكتب في تفسير القرآن والاستنباط منه ، فلا يزال المجالُ مفتوحا والعطاء مستمراً .
ويتمثل الضمان الخامس في الرقابة التي يمارسها مجلس الشورى " أهل الحل والعقد " على الحاكم ومعاونيه من السلطة التنفيذية ، حيث يراقبون كل ما يصدر عن الحاكم وسلطته ، فينبهون إلى الأخطاء ، ويدلُون على الصواب ، ويُقدمون النصيحة من منطلق المسؤولية الدينية التي يستشعرها كل فرد ، ومن منطلق المسؤولية الوظيفية التي ناطتها بهم الأمة .
ويتمثل الضمان السادس في مبدأ الأمر بالمعروف والنهي غن المنكر الذي فرضته الشريعة الإسلامية فرضاً كفائيا على الأمة ، والتي طلبت أن ينهض له أمة من الناس يرقبون المجتمع الإسلامي ويرصدون تحركاته فيشجعون كل عمل فيه خير وفضيلة ، ويحذرون من كل عمل فيه شر ورذيلة ، ومثل هذا المبدأ كفيل بأن يضع حداً للانحراف وسوء استخدام السلطة حينما يأخذ مكانه في التطبيق العلمي في المجتمع الإسلامي ، وبخاصة إذا علمنا أن العلماء والفقهاء هم المطالبون قبل غيرهم بهذا الواجب الكفائي لأنهم عين الأمة الساهرة على تطبيق شريعة الله ، وحراسة مصالح الناس ، وتاريخنا الإسلامي غني بالنماذج الفذة المثلى ، والتي كان لها أثر كبير في وقف تدهور المجتمعات وتغيير مسارها إلى الطريق الصحيح ، ولا يكاد يخلو عصر من العصور من هذه مثل النماذج التي تعتبر معالم هادية على الطريق الطويل .
وبعد : فهذه إشارات سريعة إلى بعض الضمانات التي نجدها في الإسلام لضبط فهم المسلم وسلوكه ، وهي بلاشك كفيلة بإبعاد المسلم عن الانحراف في فهم النصوص وتفسيرها ، وعن إساءة تطبيق الأحكام وتشويهها ، كما هي كفيلة برده إلى جادة الصواب في حال الخطأ والقصور. وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
وسوم: العدد 856