إدلب تعيشُ قَدَرَها مع الصراع المفتوح
بعد أن خفتت طبول الحرب في جلّ الجغرافية السورية، بتعاون وتنسيق بين مختلف الأطراف الدولية، برزت إلى السطح رؤية في الإبقاء على بؤرة توتر مفتوحة، عادة ما تلجأ إليها الدول المتصارعة؛ في مسعى منها لتفريغ فائض القوة لديها، و لجعلها صندوق بريد، للرسائل غير المرغوب في الإفصاح عن مضامينها.
إنه قدر إدلب أن تعيش قدرَها مع هذا الصراع المفتوح، و أن تكون نقطة التوتر في الأزمة السورية، و إنّه قدر أهلها أن يكونوا سكانًا لأكثر مناطق السورية سخونة؛ فمنذ أن كانت هي المحطة الأخيرة لجماعات المصالحات، حينما أقلّتهم الباصات الخُضر في رحلة النزوح إلى الشمال، في أحدث تغريبة بعد التغريبة العراقية.
من يومها و المراقبون يحذِّرون من القدَر الذي تنتظره إدلب، و قد صاحب ذلك عدّة مؤشرات على أنّها باتتْ في عين العاصفة، و أنّ تفاهمات ما قد جرتْ بين رعاة هذا الملف، على جعلها فتيل الشمعة السورية.
هذا فضلًا على جعلها فتحة التنفيس في قدور الضغط، ففيها جرتْ أشدّ المعارك الآيديولوجية ضراوة، و فيها أفرغت الميليشيات الطائفية حقد مئات السنين، و فيها تناقضت المصالح الدولية، و فيها أفرغ النظام جام غضبه على خصومه من السوريين، و فيها دشنت روسيا نجاحات مصانع الموت لديها، التي لن يكون آخرها طائرة الموت ( so 57 ).
لقد كانت الإشارات واضحة لكلّ ذي عينين، بتكبيل معاصم أهلها، و جعلهم فريسة للموت الأسود؛ فمن غير المسموح استهداف مناطق الموالاة، و من غير المسموح استهداف قاعدة حميمييم، و من غير المسموح اللجوء إلى نقاط المراقبة، و حتى التظاهر بالقرب من المعابر، و أمام جدار الفصل بات من سابع المستحيلات.
إنّه كلما خبت نار القتال في بقعة من الجغرافية السورية، اندلعت نيران الصراع المقيت مجددًا في إدلب، و لكأنّ قدر السوريين فيها أن يكونوا ذاك الرجل، الذي شبع لطمًا من فتوات الحيّ، فما وجد غير زوجته، يصبّ عليها جام غضبه، و يريها عنترياته الفارغة.
إذا كان قدر بعض أطراف الملف السوريّ أن يتلقوا الصفعات في نزال خاسر، فما ذنب الأدالبة في أن يكونوا ملطشة لهم في الصراعات والحروب التي لم يعُد لهم فيها ناقة أو جمل.
إذا قدر النفط في شرق الفرات أن يكون من نصيب أمريكا، و مناجم الفوسفات في تدمر و مكامن الغاز في الأبيض المتوسط من نصيب روسيا، و القضاء على الحلم الكردي أن يكون على يديّ تركيا، فلماذا لا يجلس السوريون، كلّ السوريين، بعدما طار من يدهم كلّ شيء، و يفكّروا في الخلاص ممّا هم فيه من الهمّ و البلاء المستطير؟!.
إنّ من يسبر حوادث التاريخ سيخرج بمحصلة تؤكد أن المنطقة ستظل ملتهبة بالصراعات السياسية والاقتصادية والطائفية والعسكرية، و أنّ عقارب الساعة لن تعود إلى ما قبل 2011، و أنّ ما جرى على السوريين ليس سوى حلقة في سلسلة ممتدة في عمق التاريخ، تحكي لنا بأنّه حينما لا يجد الإنسان من يسمع له، ويكتشف أنه يقف وحيدًا، فلا ولد ولا زوجة، ولا أهل يتفهمون موقفه من الحياة، وأوجاعه الداخلية، و آلامه الخاصة داخل جروح سحيقة لروح معذبة، فالأم قد ماتت، قتلها الزمن والجلاد والظلم والقسوة؛ فإنه سيلجأ إلى الغريب.
فللغرباء وحدَهم يمكن أن يحكي الإنسان قصته, لعلهم يفهمونه, أو يتعاطفون معه, أو يواسون ألمه، هكذا فعل الأدالبة، كما فعل رجب إسماعيل بطل رواية "شرق المتوسط"، التي كتبها الروائي عبد الرحمن منيف، لقد حسموا خياراتهم، و أثروا أن يجعلوا من إدلب مدفنًا لهم، نافضين يدهم من وعودٍ لم تعُد تغني أو تسمن من جوع.
وسوم: العدد 856