إعادة تدوير الإسلام (محمد أركون .. مثالاً)
إعادة التدوير(Recycling) : مصطلح حديث نسبياً، يعني مُعالجة الموادّ المُستهلكة وإعادة تشكيلها لاستخدامها في أغراض جديدة .
وخلال السّنوات القليلة الماضية انتقلت هذه الفكرة من ميدان الجمادات إلى ميدان الفكر، فراجت في الساحة العربية كتب عديدة تدعو إلى إعادة تدوير الإسلام، باستخدام مناهج فلسفية جديدة، لتحويله إلى دين عصري يتماشى مع الحداثة الغربية المعاصرة، التي أنتجتها فلسفات مادية ملحدة لا تؤمن بخالق ولا نبي ولا كتاب !
وفي سبيل تحقيق هذا التدوير للإسلام شهدت الساحة العربية والإسلامية خلال السنوات القليلة الماضية حملات سياسية وإعلامية شرسة، اجتمع على تدبيرها أعداء الإسلام وخصومه الحداثيين الذين اختاروا عنواناً طناناً مثيراً لكتاباتهم هو (القراءة المعاصرة للقرآن) متذرعين بلبوس الحداثة والتنوير، مصوبين سهامهم إلى كل ما له صلة بالإسلام، ولاسيما (القرآن الكريم) الذي عمدوا إلى تفسيره بأدوات غربية غريبة متجاهلين عن قصد وسوء نية أنه نزل (بلسان عربي مبين) سورة الشعراء 195 ، فصدق فيهم قول الحق تبارك وتعالى (لسانُ الذي يُلحِدون إليهِ أعجميّ وهذا لسانٌ عربيٌ مبين) سورة النحل 103 ، وعندما تسألهم لمَ تفعلون هذا ؟ يقول قائلهم بكل صفاقة : "لا يليق بالأمة الإسلامية أن تتجاهل حداثة العصر، وتتوقف عند قرآن جاء لأهل الناقة والبعير .. ؟!"
من هنا .. يظهر جلياً أن دعاوى تجديد الإسلام الرائجة اليوم ما هي إلا محاولات لإعادة تشكيل الإسلام وتحويله إلى دين عصراني جديد لا يمت إلى الأصل بأية صلة ! والدليل على هذا أن الحداثيين لا يرون القرآن الكريم كتاباً سماوياً، بل ينظرون إليه باعتباره "منتج" بشري قابل لإعادة التّدوير؛ كما صرح الباحث المصري نصر حامد أبو زيد (1943 - 2010) فقال : "إنَّ النصّ القرآني في حقيقته وجوهره منتج ثقافي؛ والمقصود بذلك أنَّه تشكّل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاماً، وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهيةً ومتّفقًا عليها، فإنَّ الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنصّ يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية، ويعكِّر من ثَـمَّ إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النصّ" مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثانية، ص 24 ، فهذا المدعي ينفي وجوداً سماوياً للقرآن، لتأكيد زعمه الباطل بأن القرآن منتج بشري خاص بعصره وبيئته، فلا قداسة فيه ولا عصمة، وهي نفس الفرية التي سار عليها كثيرون قبله وبعده، لنزع القداسة عن القرآن الكريم، وفتح الباب واسعاً للأهواء والشهوات تتلاعب بالقرآن كيف تشاء (؟!)
وهؤلاء بهذه الفرية (بشرية القرآن وتاريخيته) يتجاوزون بعداوتهم للقرآن عداوة مشركي قريش الذين اعترف زعيمهم الوليد بن المغيرة (527 – 622م) بعظمة القرآن، ونفى أن يكون منتجاً بشرياً فقال : "والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً؛ ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن؛ والله إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لَمُثمِر، وإنَّ أسفَلهُ لَمُغدِق، وإنّه يعلو ولا يُعلى عليه" .
وفي سياق إعادة تدوير الإسلام تأتي أعمال الكاتب الجزائري الفرنسي محمّد أركون (1928 - 2010) الذي نشر دراساته في النصف الثاني من القرن العشرين وقصد بها إعادة قراءة القرآن وتفسيره وفق مناهج النّقد الأوروبي الحداثي، معتمداً المناهج الفلسفية الأوروبية المستحدثة، ثم نشر دراساته في كتابه "قراءات في القرآن" الذي نشر سنة 1982 في باريس، ثم استلّ منه دراسات توسع فيها ونشرها في كتاب عنوانه "القرآن من التّفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدّيني" وقد بيّن في مقدّمة الكتاب غايته فيه "تحليل الخطاب الدّيني أو تفكيكه لتقديم معانيه الصّحيحة وإبطال التّفاسير الموروثة، وإبراز الصّفات اللّسانية اللّغوية وآلات العرض والاستقلال والإقناع والتّبليغ والمقاصد المعنوية" .
وقد حشد أركون في كتابه هذا جملة من العناوين البراقة للمناهج الحداثية (اللّسانية، السيميائية، التّفكيكية، البنيوية، السيسيولوجية، الأنثربولوجية ...) لكي يوهم القارئ غير المطلع على هذه المناهج أنه يستند إلى أعظم ما تفتق عنه العقل البشري من مناهج التفكير .. وهي الحيلة نفسها التي يسير عليها اليوم أدعياء التجديد العرب من أمثال المهندس السوري "محمد شحرور" والمصري "حسن حنفي" ، والتونسي "يوسف الصديق" وأضرابهم ممن يتوسلون بهذه المناهج الغربية بحجة الوصول إلى معرفية أعمق لفهم القرآن الكريم، زاعمين أن هذه المناهج تنتقل بالتفسير إلى منظومة معرفية أكثر انفتاحاً، وأشمل إحاطةً من التّفسيرات الموروثة !
ولا شك بأن اعتماد الحداثيين أدوات فلسفية غربية في تناول القرآن ينطوي على تجاهل مقصود لطبيعة هذا الخطاب (العربي المبين) الذي ينبغي أن يفهم ويفسر انطلاقاً من طبيعته العربية واستخدام أدواته العربية، لا انطلاقاً من مناهج غريبة لا تمت إليه بأية صلة !
ومما يكشف النيات المضمرة في أعمال أركون تأكيده مراراً وتكراراً أنّ أزمة المسلمين الراهنة ترجع إلى أن القرآن الكريم لا يزال عندهم هو المرجعية العليا المطلقة، ولم تحلّ محلّه أيّ مرجعية أخرى .. فما يقلق أركون وأضرابه بقاء القرآن مرجعية مطلقة تحدّد للمسلمين ما هو الصّحيح وما هو الخطأ، ما هو الحلال وما هو الحرام (؟!)
ولا يكتفي أركون بهذا الهذيان الفكري، وإنما ينعى على الحركات الإسلامية معارضتها المستمرة للدّراسات الاستشراقية، ونظرهم إليها باعتبارها "محرمات" وفي المقابل يعظم أعمال أساتذته المستشرقين الذين يدعي أنهم قدموا للإسلام خدمات جليلة، ليغطي عنهم ما أثاروا من شبهات، وشكوك، واتهامات ضد الإسلام والمسلمين !
لكن .. يأبى الله إلا أن يفضح هذا الدعي "أركون" فيستدرجه إلى سقطة مدوية؛ إذ يفضح أسباب جرأة الحركة الاستشراقية على الإسلام بأنها كانت مدعومة من قبل الهيمنة الاستعمارية، وهو يأسف لأنّ هذه الجرأة قد تراجعت، فلم تعد اليوم كما كانت بالأمس خوفًا من ردّ فعل الأصولية الإسلامية المتشدّدة، حسب تعبيره في كتابه آنف الذكر !
والخلاصة .. أن أركون بدعوته إلى قراءة القرآن قراءة عصرانية في ضوء الفلسفات الحداثية يؤكد نظرته إلى القرآن الكريم نظرته إلى أيّ كتاب عادي؛ لأن السّيميائيات التي يعتمد عليها أركون وضعت في الأصل لدراسة الحكايات الشّعبية التي هي منتج بشري خالص، من الخطأ الفادح تطبيقها على النص الإلهي المعصوم، ومع هذا يصر أركون على اجتراح هذا الخطأ المنهجي، بهدف جعل نصوص القرآن مفتوحة على كل المعاني التي يريدها القارئ، ما يجعل القرآن مجرد لعبة فكرية !
ويسقط أركون سقطة منهجية أخرى تفضح جهله المركب بتاريخ القرآن الكريم؛ فيزعم أن القرآن "لم يكن مكتوباً في البداية، وإنّما كان كلاماً شفهيّاً أو عبارات لغوية شفهية تنبثق على هوى المناسبات والظروف المتغيّرة، وقد استمرّ ذلك عشرين سنة" انظر : محمّد أركون، الفكر الأصولي واستحالة الـتّأصيل . وهذا الادعاء يوهم بأنّ الخطاب الشّفهي (القرآن) مختلف عن الخطاب الكتابي (المصحف) وقد أصيب أركون بهذا الوهم من جراء تأثّره بمفاهيم الألسنيات الحديثة التي ترى أنّ عملية النّقل والتّكرار للكلام تؤدّي إلى التّحريف والتّحوير للحقيقة خلال الانتقال من الشفهية إلى الكتابة" وفي هذه الفرية تجاهل مقصود، بل جهل فاضح بتاريخ القرآن الذي كان كلما نزلت منه آيات أمر النبي كتّاب الوحي بتدوينها، فكانت كتابة القرآن وحفظه الشفهي يجريان في آن معاً تحت رعاية النبي صلى الله عليه وسلم .
واعتقادنا أن أركون الذي يكتب بالفرنسية التي ولد في أحضانها وترعرع في مدارسها هي التي جعلته يعاني من قصور كبير في إدراك الأسلوب العربي والبلاغة العربية التي يتفرد بها القرآن الكريم، بهدف التصعيد بالخطاب القرآني وتعميمه والتّعالي به فوق الأحداث المحددة، وإسباغ الرّوحانية على نصوصه، والارتقاء بها إلى مستوى كوني يتجاوز الزمان والمكان، فالقرآن عندما يعرض واقعة أو حادثة لا يحفل كثيراً بالأسماء والتفاصيل الزّمكانية؛ لكي يخلع عليها صفة التّعالي والتّسامي، وتقديمها في صورة معادلة رياضية تصلح على واقع البشر في كل زمان ومكان، وفي هذا إعجاز بلاغي لا يرقى إليه كاتب ولا كتاب !
وسوم: العدد 858