ولادة جديدة دخلت العراق حافيا
قبل ثمانية عشر عاما تحقق حلم كان أبعد من كل المجرات، فقد عدت إلى أرض الوطن بعد محنة الأسر التي استمرت عشرين سنة إلا شهرين أي 238 شهرا أي أكثر 1032 أسبوعا وبالايام هي 7245 يوما.
وهذه هي قصة عودة الروح إلى جسدها.
في تمام الساعة التاسعة من مساء يوم الثلاثاء 22 كانون الثاني 2002 دخلت الأراضي العراقية الحبيبة من نقطة المنذرية بعد عشرين سنة عشتها مع آلاف من العراقيين الشرفاء الذين لم يفقدوا بوصلة الولاء للوطن في أقبية ودهاليز السجون الإيرانية الرهيبة المسماة بمعسكرات الأسر، وقد تقلّب هؤلاء الأسرى بين صنوف العذاب الذي لم تر له كتب التاريخ مثيلا إلا في بلاد فارس وتفنن فيه الإيرانيون كما برع في أساليب التعذيب وحوش محاكم التفتيش، ولم يتمكنوا من إشباع غريزة الانتقام من العرب عموما والعراقيين خصوصا الذين مرغوا أنوفهم في أوحال الهزيمة والذل، وأرغموا خمينيهم على تجرع كأس السّم في 1988/8/8، لهذا نقلوا انتقامهم إلى معسكرات الاعتقال السرية التابعة للمليشيات الولائية التابعة للحرس الثوري الإيراني، فغيبوا الآلاف واغتالوا الآلاف، ولكن غريزة الدم عندهم لم تنطفئ بعد.
وكي لا تغيب هذه الذكريات المرة عن الأذهان وعن العيون، ومن أجل أن تبقى متقدة وتستنهض كل مشاعر الكراهية لدولة الحقد دولة الولي الفقيه وتحصن العراقي أمام كل محاولات التدجين والاحتواء الفارسي، أعيد نشر السطور الأخيرة من كتابي (في قصور آيات الله) تلك السطور التي تحكي قصة العبور من الموت إلى الحياة.
وهذه هي السطور الأخيرة
عندما اقتربنا من الحدود العراقية بالحافلات الإيرانية، كانت الساعة تقترب من التاسعة من مساء يوم الثلاثاء 2002/1/22، وشاهدنا عن بعد حشود العراقيين الذين جاءوا لاستقبال العائدين من أسرى يعرفونهم أو لا يعرفونهم، وقد تحشّدت الجماهير على جانبي الطريق بل سدّت الطريق عن آخره غير مبالية بهطول الأمطار الغزيرة، تواصينا وبرجاء حار، وكما أوصانا العاملون في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أسرعوا أثناء الانتقال من الأرض الإيرانية إلى الأرض العراقية لضمان دخولكم بلدكم، وقف جنديان، إيراني عند آخر نقطة إيرانية، وإلى جانبه جندي عراقي عند أول نقطة عراقية وهنا مفارقة المشهد المثير.
يتم التسليم بين الجنديين باليد واحداً واحداً، كم تزاحمت الأفكار في الرؤوس، كم تعددت الصور أمام العين، ولكنّ الحقيقة كانت أكبر من كل خيال، وأجمل من كل الأحلام، حينما سلمني الجندي الإيراني للجندي العراقي، توقفت عن الحركة من دون إرادة مني ولكن وعيي المختزن في أعماق عقلي وضميري هو الذي قادني إلى ما أقدمت عليه، تساءلت هل أتوقف عن المضي إلى أرض الوطن؟ وهل يمكن أن يحصل مثل هذا لرجل مثلي؟ تداعت الأفكار الواحدة تلو الأخرى، وتبين أنني لم أنتبه إلى زملائي المتلهفين مثلي للوثوب إلى أرض العراق كانوا ينادون عليّ تقدم يا نزار، ولما لم أعرهم انتباها هاج بحر الأسرى وماج غضبهم بالصياح تقدم يا نزار وربما ترافق مع بعض العبارات النابية والشتائم، ولكنّني تسمرت في مكاني وبهدوء وبآلية قفزت إلى رأسي عند تلك اللحظة الحاسمة، بدأت أفتح خيط حذائي الإيراني الذي كانت إدارة المعسكر قد سلمته لي قبل بضعة أيام، ونزعته عن رجلي كليهما، ووسط صياح متعال، عبرت الحدود حافيا، بعد أنْ قدّمت قدمي اليمنى على خلاف المشية العسكرية، لأنّ أبي رحمه الله أوصاني بأنْ أقدم رجلي اليمنى حينما أدخل مكانا طاهرا من آخر بلا طهارة، ولأنّ الحذاء كان إيرانيا فقد وجدت من المستحيل أنْ أدخل أرض العراق الطاهرة بحذاء إيراني ومشيت وسط الأوحال وسيول المطر حافيا، فهذا استحقاق وطني للعراق العظيم.
أُسرت يوم الأربعاء 24 أذار / مارس 1982 وعدت بعد 238 شهرا إلى العراق في 22 /1 / 2002، وعادت الروح والحياة إلى شراييني، حسبت عند اللحظة التي وضعت قدمي فوق أرض العراق كأن الأرض قد توقفت عن الدوران حول نفسها أو حول الشمس، كانت فرحتي وفرحة أهلي عظيمة ولا توصف وذلك ما جعل جرحا كبيرا يندمل ولكن مسيرة الأيام تمضي بنا من دون أن تفرق بين يوم وآخر.
لمست أن أرض العراق وكأنها صنعت من مسك أو صيغت من الذهب والأحجار الكريمة، وكم تمنيت لو أني لم أطأها برجلي.
وسوم: العدد 861