مَنْ يحلم بالزنابق البيضاء؟
إقرار الفلسطينيين بـ«يهودية» دولة الاحتلال الإسرائيلية هو أحد الاشتراطات الكبرى في الفلسفة السياسية الصهيونية المعاصرة، كما يبشّر بها أمثال بنيامين نتنياهو وأقطاب الليكود واليمين الإسرائيلي القومي عموماً؛ ومؤخراً بات هذا الاشتراط ركناً مركزياً في مشروع «صفقة القرن». قبل هذا، وكما هو معروف، عكف الكنيست على تشريع يسبغ الصفة القانونية على الهوية اليهودية لـ«الدولة»، ولـ«المواطن».
على جبهة عدد غير قليل من المؤرخين والمفكرين اليهود، والكثير منهم يحملون الجنسية الإسرائيلية، لم تكن ملفات «يهودية» الدولة بهذه البساطة، وهذا التبسيط أيضاً؛ خاصة وأنّ السجال ليس جديداً مبعثه نتنياهو واضرابه، بل هو قديم وعتيق، موضوعي بمصطلح علوم التاريخ والاجتماع، وفلسفي وروحاني بمصطلحات شتى تتصل بالتصوّف اليهودي وتأويل التوراة. الأشهر بين هؤلاء، ولعله الأشدّ إشكالية وجسارة في آن معاً، يظلّ المؤرخ اليهودي الإسرائيلي شلومو ساند، مؤلف الكتاب الشهير «اختراع الشعب اليهودي»، وجزئيه المتممين «اختراع أرض إسرائيل»، و«كيف لم أعد يهودياً»؛ فضلاً عن أعمال أخرى مثل «شفق التاريخ»، و«نهاية المفكر الفرنسي: من زولا إلى ويلبيك»، و«موت الخزري الأحمر».
للفلسطيني على أرضه، من النهر إلى البحر، أن يواصل الحلم بأوراق الفرفحينة أسوة بالزنابق البيضاء، شاءت «صفقة القرن» أم أبت؛ فله في أرضه ما يعمل، وله صوت الحياة الأوّل، وله الحاضر والمستقبل!
لكنّ ساند موضوع حكاية فريدة، طريفة وحمّالة مغزى دائم الحضور في شؤون وشجون القضية الفلسطينية، ولها امتدادات في حاضر هذه الايام تحديداً. ففي أواسط الستينيات، وفي ذروة الانكسارات الكبرى التي أعقبت هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) 1967، كتب محمود درويش قصيدته الشهيرة «جندي يحلم بالزنابق البيضاء»؛ والتي ظهرت، بعدئذ، في مجموعته الشعرية «آخر الليل»، 1967. ولقد انطوت القصيدة على خصوصية غير مألوفة في الشعر الفلسطيني، إذْ أنها تصوّر الجندي الإسرائيلي على نحو مغاير للتنميطات المعتادة التي كانت سائدة آنذاك، في مجمل الخطابات الأدبية والسياسية والإيديولوجية الفلسطينية والعربية في آن.
كان ذلك الجندي الإسرائيلي، العائد لتوّه من حرب ضدّ العرب، لا يتغنّى بأيّ حلم صهيوني أو توراتي، ولا يفصح عن أيّ مطامع استيطانية، ولا يعرب عن أيّ مشاعر عنصرية ضد أعدائه العرب. إنه يحلم بالزنابق البيضاء، أو بغصن زيتون، أو بطائر يعانق الصباح، أو بزهر الليمون. «الوطن» عنده يُختصر في احتساء قهوة أمّه، وفي العودة إليها آمناً آخر النهار. الأرض؟ «لا أعرفها/ ولا أحسّ أنها جلدي ونبضي/ مثلما يُقال في القصائد»، يردّد الجندي. ولكن، هل يحبّها؟ «قد علّموني أنّ أحبّ حبّها/ ولم أحسّ أن قلبها قلبي/ ولم أشمّ العشب، والجذور، والغصون»، يردّ الجندي؛ معرباً عن نبرة كوزموبوليتية لا تشبه، البتة، أيّ تبشير صهيوني حول شخصية الإسرائيلي، المقاتل على الجبهات أو من داخل الكيبوتز.
ورغم أنها وصلت متأخرة إلى العالم العربي، ورغم «الدلال» الخاصّ الذي كان درويش يحظى به آنذاك في العالم العربي، فإنّ ردود الفعل على القصيدة لم تخل من عصبية واضحة في رفض هذه الأنسَنة لشخصية الجندي الإسرائيلي. وهكذا كتب الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب، في مقدّمة «ديوان الأرض المحتلة»: «أيّ نمط إنساني، عجيب حقاً، ذلك الذي جاء من بولندة، أو رومانيا، أو اتحاد جنوب أفريقيا، من أجل أن يبحث عن زنابق بيضاء في الجولان، أو في الغور الأدنى، أو في سيناء؟ إنّ هذا الإنسان، سواء أكان في هيئة عامل أو في هيئة مزارع، أو في هيئة جندي يحلم بالزنابق البيضاء، لا يكاد يختلف شيئاً عن أيما ضابط هتلري قام بواجبه العسكري على أكمل وجه في ساحة القتال، أو في أحد أفران الغاز، ثم عاد إلى نفسه ليسكر ويبكي، ويتأمّل صورة زوجه وطفله الرضيع اللذين تركهما في برلين».
تلك كانت مسألة فيها نظر، بالفعل، لأنها تطرح التساؤل المشروع: أيعقل أن يكون هذا «النمط» حقيقياً؟ درويش، من جانبه، كان يعرف أنّ الـ «نعم» هي الإجابة الوحيدة على ذلك التساؤل، لأنّ الواقعة التي ترويها القصيدة كانت فعلية وليست متخيّلة؛ وأمّا خاتمة الحكاية، التي انعقدت وتكشفت بعد سنوات طويلة، فإنها كانت مفاجِئة تماماً: روى لي الصديق الكاتب والمؤرّخ الفلسطيني الياس صنبر أنّ إحدى أقنية التلفزة الفرنسية دعته، ذات يوم، إلى حوار حول السلام مع أكاديمي إسرائيلي؛ فاكتشف صنبر أنّ شريكه في الحوار هو ذاته الجندي الذي كان يحلم بالزنابق البيضاء في قصيدة درويش، وأنّ اسمه… شلومو ساند!
صحيح أنّ أمثال ساند قلّة قليلة في أوساط اليهود على نطاق عالمي، فما بالك بالإسرائيليين؛ إلا أنّ سطوة حكاية مثل هذه لا تقتصر على أعداد هؤلاء، بل تخصّ حقائق الوجود الفلسطيني في تعدده الحضاري والثقافي الأندر على امتداد التاريخ البشري. وعن هذا لم يكن درويش يغفل البتة: «إنّ الفلسطيني الجدير بهذا الاسم ينبغي أن يغتني بكلّ الثقافات التي كوّنته، من البابلية والسومرية والفارسية والعثمانية إلى تلك اليهودية والمسيحية والإسلامية، وإنها لفرصة طيبة أن ينتمي المرء إلى بلد تشرّب كلّ هذه الثقافات القديمة العريقة»؛ كما قال الراحل في حوار مع أسبوعية «لونوفيل أوبزرفاتور» الفرنسية.
وبذلك فإنّ للفلسطيني على أرضه، من النهر إلى البحر، أن يواصل الحلم بأوراق الفرفحينة أسوة بالزنابق البيضاء، شاءت «صفقة القرن» أم أبت؛ فله في أرضه ما يعمل، وله صوت الحياة الأول، وله الحاضر والمستقبل!
وسوم: العدد 862