هذا جناه أبي عليّ
أمام هؤلاء المتغطرسين أقف اليوم وحيدا عاريا ضعيفا، لأسمع قرار القضاء عليّ وتسليم مفاتيح بيتي وأرضي وتاريخي وثقافتي وأزيائي الشعبية ومطبخي وأهازيجي للغرباء، الذين تلملموا من بلاد بعيدة، وعقدوا صفقات مع بعض زعماء مدن الملح ليسكنوا معنا، ويأكلوا من خبزنا ويشربوا من ينابيعنا، ولما تمكنوا استولوا على الأرض والخبز والماء ورموني في المنافي.
اليوم يوم الحساب، جاء موعد دفع الثمن للأخطاء والخطايا التي سهلت وساهمت وعجلت في الوصول إلى هذا اليوم، الذي أقف فيه وحدي بعد أن نزعوا مني سلاحي وأعادوا صياغتي، لأكون هادئا ومطواعا وراضيا، وأدخلوني في القفص المغلق من كل الجهات، بانتظار أن يأتي شبل يرفع العلم على قباب المساجد والكنائس في القدس، «شاء من شاء وأبى من أبى» ولم يصل بعد.
اليوم لا أريد أن أوزع المسؤوليات على الإخوة وأولاد العم والجيران والأعداء، القريب منهم والبعيد، وما أكثرهم، بل أريد أن أراجع ملفات شيخنا وزعيم عشيرتنا، وأنا أجلس وحيدا في زاويتي وأتحسر على الأيام الخوالي، عندما كانت ثقافة التحرير والمقاومة هي السائدة. فقط أريد أن أعمل جرد حساب للذاكرة منذ فتحنا عيوننا على صورة الفدائي، وشنفنا آذاننا بـ»طل سلاحي»، وحلفنا بدم الشهيد أن نسير على دربه. أقف الآن في نهاية المشوار، وأنظر إلى الخلف وأرى تلك العلامات السوداء في مسيرة كنا نراها تنحرف عن الصواب منذ زمن بعيد، وكلما صرخنا: يا قوم عودوا إلى الطريق السليم، اتهمونا بالعدمية والسذاجة الثورية، والبعد عن الواقعية «فالسياسة فن الممكن»، كما قالوا لنا. جادلناهم وقلنا لهم لا، السياسة أن تغير الواقع لصالحك، وأن تستثمر نقاط قوتك ضد نقاط ضعف العدو وأن تكون علاقاتك دائما مع الجماهير، لا مع الجلادين، وألا تراهن على أعدائك وأصدقاء أعدائك ووكلائهم في المنطقة ـ فلم يسمعوا وظلوا في غيهم يعمهون.
في الأغوار
كانت الأغوار تعج بالمقاتلين، وكان الطلاب يتسابقون لقضاء عطلة نهاية الأسبوع معهم ليعيشوا الظروف التي يواجهها المقاتل. كنا نشيع شهداء الجامعة كل أسبوع. فبعضهم كان يصر على المشاركة في العمليات، ويعودون محمولين على الأكتاف. نغني لهم أهازيج البطولة. شاعر الجامعة يرثي الشهيد الذي «أمال رأسه الصغير فوق صخرة ونام وحطّ فوق جرحه اللوزي طائرا حمام». بكاء ثم أهازيج ثم روح ثورية تدب في الجميع فيلتحق عدد من الطلبة بالرابضين على خط النار. الشعب كله، صغيرا وكبيرا، نساء ورجالا من كل المدن والقرى والبوادي يلتف حول الثورة… لكن تراكمت الأخطاء، واستغلت الخطايا وحملوا ما تبقى من كلاشينات ورحلوا من أكبر حاضنة شعبية في تاريخ الثورة.
في قلعة الشقيف
في القلعة التي تطل على فلسطين جلست معهم. تحدثنا.. عراقي وليبي، ويمني ولبنانيون وفلسطينيون، اختاروا أن يكونوا مع الأبطال. يكرهون شارع الحمراء والفاكهاني، «أرض فتح» سميناها، قالوا. أهل الجنوب فتحوا لنا قلوبهم وبيوتهم وقاسمونا لقمة العيش، لكننا بنينا دولة ضمن الدولة. القلعة شيء وبيروت عالم آخر. تنظيمات تفرخ وأطنان من أموال النفط تصرف. أسماء إذا ذكرت تكلل بالغار وأسماء أخر إذا ذكرت تلطخ بالعار. التياران يتنافسان.. لا نسلم البندقية إلا مع تسليم الروح، قال لي ضابط نشمي في مخيم الرشيدية. الطلاب في الجامعة لم يسمحوا للقائد الذي جاء ينظّر للتسوية أن يكمل مداخلته فطردوه. بالون اختبار لما هو آت، قال لي صديق. قال أحد القادة في الدورة العاشرة للمجلس الوطني: مرروا لنا فقرة السلطة الوطنية، وأعطوها عشرة أوصاف ثورية. كان يعرف أنها خرم الإبرة التي سيدخل منها الفيل. قلنا لهم: هل هي ثورة أم دولة؟ ماذا تنفع دبابات تي 34 التي رمى بها الاتحاد السوفييتي من ترسانته، ولماذا تستعرضونها في ملاعب بيروت يوم عيد الثورة؟ ألم نتعلم منكم أننا نعتمد على حرب الشعب طويلة الأمد، التي تعتمد على الإنسان الواعي، وتنقل المعركة إلى داخل تجمعات المستوطنين فتصيب أمنهم في مقتل، فيهربون من الأرض التي احتلوها غصبا، لأنهم يعرفون أنهم لصوص. قاتلت تلك المجموعة في القلعة حتى النهاية، بينما هرب أصحاب الرتب الكبرى وادعوا أنها أوامر الزعيم. كان يوما حزينا يوم ركبتم السفن وودعتم بيروت، مخلفين وراءكم المخيمات عارية مكشوفة. صدقتم وعد الرئيس الأمريكي ريغان، آثرتم البحث عن الدولة بدل الثورة فخسرتم الاثنين معا. اتخذتم من فندق سلوى في شواطئ قرطاج مقرا لاستقبال الوسطاء والمبعوثين والعملاء، مزينين لكم أهمية التحول من حركة تحرير إلى حركة استقلال. الدولة هي الحل المرحلي، كما قال كبير المنظرين، وبعدها ننطلق لتحرير كل فلسطين. ما هذه السذاجة؟ وهل العدو من الغباء ليسمح لكم بإقامة دولة مدججة تكون انطلاقا لتحرير ما تبقى من الأرض؟
قصر الصنوبر
التأم القوم جميعا، المدرج يتسع للآلاف، وفود من المعارضة المصرية جاءت تحذر من فك العزلة عن جماعة الكامب، بعد أن دفع كبيرهم الذي علمهم السحر عمره ثمنا للخيانة. وفود من لبنان والأردن واليمن، كل جاء ليسمع جوابا على السؤال «ما أنتم فاعلون بعد خسارة لبنان». صمت الجميع ودخل القائد محاطا برجال الأمن ووقف خطيبا. قال: «إن حلف الناتو الآن يدرّس في مناهجه تجربة صمودنا في بيروت». تصفيق حاد. قلت في نفسي أهذا ما جئنا من خلف المحيطات لنسمعه؟ لم يتعلموا شيئا من بيروت. قال أحد المشاركين: «سنعقد الدورة المقبلة في جزر الفيجي». طرد من المؤتمر وقتل بعدها بقليل. قال آخر في اجتماع مع القيادة: «الاتصالات مع الأحزاب الإسرائيلية لم تعد سرا». قيل له هذه وقاحة. وطرد من المجلس. يومها رددت في نفسي قول مظفر: «عندما لم يبق وجه الحزب وجه الناس قد تم الطلاق». هذا آخر عهدي بكم يا جماعة الحلول المرحلية، إبحثوا عن الدولة لوحدكم تفرقنا.
في النقرة وحولي
سميناهما الضفة وغزة، أكثر من أربعمئة ألف يعملون بجدية في كل المجالات ويعيلون مليونين في الأراضي المحتلة. منا المعلم والمهندس والطبيب والكهربائي والبناء والصحافي والمصرفي والتاجر. كنا نعيش أزهى أيامنا. كل التنظيمات تعمل بحرية والفرق الفنية تعيد إحياء التراث الفلسطيني، في حفلات التبرعات للفصائل المقاتلة. «أقسم لكم إن فتاة من العائلة الحاكمة، خلعت قلادة الذهب من عنقها وتبرعت بها للشعب المناضل»، قالت لي صحافية كانت شاهدة عيان. شعبنا هنا يبدع في الصحافة والشعر والرسم والغناء والعلم. ثم تشردنا نتيجة الموقف الخطأ، بدون ذنب من لدنا. «كيف من تحتل أرضه يؤيد احتلالا آخر؟ كيف من يناضل ضد الاحتلال لا يرى ما جرى في بلدنا صباح الثاني من أغسطس 1990؟»، سألتني زميلة كويتية فلم أجد لها جوابا. أربعمئة ألف تقطعت بهم السبل، وفقدوا بيوتهم ومتاجرهم ووظائفهم ومصادر رزقهم، بسبب الوقوف مع من ظنوا أنه سيحرر القدس مرورا بالكويت.
في أوسلو
أوسلو كانت نتيجة لمسيرة طويلة بدأت قبل عشرين سنة منذ الرحيل الأول – كيف يمكن لشخص عاقل أن يوقع على اتفاقية غامضة خطيرة، توضح كل مطالب العدو وتسكت عن كل مطالب شعبنا. لماذا وقعتم الاتفاقية سرا بدون علم الشعب، ولا قواه ولا قياداته، ولا حتى غالبية القيادة الفلسطينية الموجودة معكم؟ تم تعميم الاتفاق على أنه انتصار، وطلب من الشعب الفلسطيني أن يرقص ويهلل للفتح العظيم وعودة صلاح الدين إلى غزة وأريحا أولا، كما قيل لنا. الاتفاق سيؤدي بعد خمس سنوات إلى دولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف. وقيل لنا، إن الاستيطان سيتوقف ومصادرة الأراضي ستصبح شيئا من الماضي، وإن السجناء الأبطال سيعودون إلى بيوتهم وعائلاتهم مكللين بالغار، وقيـل لنا أيضا إن حق العودة مضمون، فلا تخافوا على ملايين اللاجئين، وما عليكم إلا أن تعودوا إلى بيوتكم، فقد أدت الانتفاضة الأولى غرضها.
جاءنا أحد القادة ليسوّق أوسلو وقال: «لقد زرعنا وجاء موسم الحصاد. وخائن من يزرع ولا يحصد». جاء موسم الحصاد في عهد الرئيس التحفة ترامب الذي عرض على ما تبقى منا سُمّا زعافا سماه صفقة القرن.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي المقاومة
وسوم: العدد 862