نساء الإسلام
إن الثقافة الغربية قد واجهت العالم بسيل غامر من أحاديث أبطالها رجالاً ونساءً، ونحن إذ نتحدث عن الفضليات من نساء المسلمين قديماً وحديثاً نجد أنفسنا في جو قد امتلأ بأسماء الغربيات، ففي مدارسنا الإسلامية تجري على ألسنة الأساتذة والطلاب أسماء فتيات كان لهن في الحروب والوقائع مواقف وجهود، كتبت لهن الرفعة والخلود، فيذكرون أم جان دارك، أو يتحدثون عن بعض أولئك المتطوعات من اسبانيا في حرب نابليون. ولدينا في تاريخ الإسلام ذكريات حافلة بنجوم مشرقة من أولئك الخيرات المستبسلات اللواتي وقفن حياتهن لإعلاء كلمة الإسلام ورفع رايته، وناضلن إلى جانب الرجل في الحدود التي تسمح بها أنظمة الدين وتقاليد الآداب. ونحن ذاكرون لك بعض هؤلاء المجاهدات من خواتين الإسلام من العرب والترك والهند بقدر ما يتسع له المجال.
إن تاريخ قوميتنا الإسلامية مملوء بالعشرات بل بالمئات من الوقائع الكبرى ومن الأسماء المجيدة الخالدة التي تحيي في قلوبنا العزة والفخار، ولكن آذاننا – وا حسرتاه - قد أصيبت بصمم عن هذا التاريخ، لأن أسماء أخرى قد تكدست بها أفكارنا وعقولنا فأصبحنا لا نسمع طنیناً ولا دوياً ولا نصغي إلى صوت إلا إذا أقبل ذلك كله من ناحية الغرب. جرت عادت العرب قبل الإسلام أن كان الأبطال من الرجال يتقدمون إلى المعارك ومن خلف صفوفهم النساء والأطفال. ولقد كان لأولئك المجاهدات يد عاملة في كسب المعركة، فهن يواسين المرضى ويسعفن الجرحى ويتعهدن الخيول والأسلحة ويراقبن الأسرى ويحافظن على كل أمتعة الجيش ويلقين الأراجيز والقصائد التي توقد نار الغيرة والحمية في قلوب الأبطال ويذكرهم بأسلافهم الماضين الذين عادوا من حروبهم منتصرين.
لست في هذا القول متجنياً على التاريخ مختلقاً تلك المفاخر والمناقب العليا التي مثلتها رسالة المرأة العربية، فإن كنت في ريب مما أقول، فإني أحيلك على عمرو بن كلثوم الشاعر صاحب المعلقة يسمعك بنفسه صدى هذه الحقيقة:
وبقي هذا الأسلوب من الجهاد في الإسلام، فكان للنساء نصيبهن من أعباء المسؤولية التي يقوم بها الرجل في الغزوات، ففي إحدى المواقع كانت أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها تسقي الجرحى من جنود المسلمين بالقربة، ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يحمل الأزواج نساءهم إلى الموقعة في غير حاجة. وقد سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما معناه أن الرجال ينالون الأجر ويفوزون بالدرجات العالية عند الله لجهادهم في سبيل الله، فقال: جهاد المرأة الحج.
ويروي لنا أبو نعيم صاحب الحلية أن جيش المسلمين لما توجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة خيبر خرج من المدينة خلف الجيش ست نساء، فلما علم بأمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب لذلك، فقلن له يا رسول الله قد خرجنا ومعنا الدواء لنسعف الجرحى ونخرج من أجسامهم السهام ونعد للجيش الطعام، فأذن لهنّ صلى الله عليه وسلم، ولما انقضت غزوة خيبر وكتب فيها النصر والفلاح للمسلمين جعل النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء النساء قسماً في الغنيمة وأسهم لهن فيها مع الغزاة من الرجال "انتهى بالمعنى".
ويروي لنا الطبري في إحدى المواقع أن الرجال كانوا يخرجون قتلاهم إلى مكان خلف الصفوف. وكانوا يعمدون بالجرحى إلى النساء ليقوموا بتجهيز الشهداء، وفي حرب الأغواث والأرماث من سلسلة حروب القادسية كانت النساء ومعهن الأطفال يقمن بالتجهيز وحفر المقابر للشهداء. (راجع الجزء السادس صفحة 2317 طبع أوروبا.
وفي فتح القادسية أيضاً تقول بعض النساء اللاتي شهدنا الحرب: لقد كنا نشمر عن سواعدنا ونمضي خلف الصفوف وإلى الأطراف، وبأيدينا العصي فمن وجدناه من الجرحى حملناه.
ويتبين مما رواه البخاري أن عمر بن الخطاب وهو المعروف بشدته على النساء لم يضن بفرض العطاء لأم سليط الصحابية لأنها أبلت بلاءً حسناً مع المسلمين في غزوة أحد، عندما تكاثر الرماة على المسلمين وأحدقوا بهم فكانت تضمد الجرحى وتسقيهم من قربة كانت معها.
ومما سبق يتجلى ما كان للمرأة المسلمة من صدق اليقين، وكمال الغيرة على الدين، وحرصها أن لا تحرم من شرف الجهاد مع المسلمين لتنال فخر المجاهدين وأجر الصابرين. ويعلم مما سبق أيضاً أن المشروع من الجهاد كان ينحصر تقريباً في هذه الأمور:
١- سقي الجرحى وإطفاء ظمئهم في المعركة الحامية.
۲- تنظيم الأطعمة للجنود.
3 - حفر القبور للشهداء.
4 - نقل المصابين من بين الصفوف، کیلا يحدث بقاؤهم على هذه الحالة إضعافاً للروح المعنوية، أو إخلالاً بأنظمة الصفوف.
5- إمداد المصابين بوسائل الإسعاف الممكنة.
6- إمداد الجند وإثارة النخوة والغيرة، وبعث روح الهمة والاستبسال إذ دعت الضرورة إلى ذلك.
وإذا تتبعت سجل الجهاد في القرن الأول الهجري صحيفة صحيفة وجدت المرأة المسلمة تؤدي فريضتها كاملة خلف صفوف الرجال، في حومة النضال، ولكن القارئ قد يستولي عليه العجب إذا علم أن ربات الحجال من الجنس اللطيف، قد أتيح أن يقاتلن أيضاً كما يقاتل الرجل في بعض الضرورات الحازية فينتصرن كما ينتصر الرجل، وأتيح لليد الناعمة أن تضرب بشجاعة الإيمان رأس الكفر فترديه صريعاً.
وفي غزوة الخندق تجمع أحزاب المشركين وغيرهم، وعسکرت قبائلهم قرب المدينة وشغل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بأمر الخندق، ثم خان بنو قريظة في معاهدتهم فأحدثوا بذلك ثغرة داخلية في قوة الإسلام إذ ذاك. (وهنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً). وكان بنو قريظة يؤدون المسلمين من الخلف ويساعدون الأحزاب.
وفي مكان بالمدينة كان النساء بمعزل عن الجيش ولم يكن لديهن من الجنود من يمنعهن غائلة اليهود من بني قريظة وفي تلك الأثناء أقبل يهودي فاطلع على مكانهن، ورأته صفية أم الزبير بن العوام وعمة رسول الله، فطلبت إلى حسان أن يقتل ذلك اليهودي، خشية أن يطلع بني قريظة على عورات المسلمين ولكن حسان اعتذر وتخلف عن الإقدام فتقدمت صفية رضي الله عنها وحملت عموداً من بعض الخيام وضربت به رأس اليهودي فسقط على الثرى قتيلاً. وهنا يقول المؤرخ ابن الأثير الجزري ما مؤداه: أن صفية هي التي ضربت المثل الرفيع في البطولة الأولى للمرأة المسلمة. وفي أسد الغابة أن أم سليم والدة أنس بن مالك خادم رسول الله (صلى الله عليه سلم)، شهدت المغازي كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد كان جهاد المرأة المسلمة في خدمة الإسلام واضحاً قوياً، منذ فجر الدعوة. والتاريخ يحفظ لنا اسم تلك الصحابية الوفية أم عمارة، فقد اشتركت مع المسلمين في بيعة العقبة. ولما توجه رسول الله في السنة السادسة إلى الحج عام الحديبية وأرسل عثمان رضي الله عنه إلى مكة، ثم شاع بعد ذلك نبأ قتل عثمان أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة من أصحابه على قتال المشركين، وكانت تسمى هذه بيعة الرضوان، وقد اشتركت فيها أم عمارة، كما أنها شاركت زوجها زيد بن عاصم في غزوة أحد.
وفي خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ظهرت فتنة مسيلمة الكذاب، فوجه إليه جيشاً باليمامة استشهد فيه كثيرون من المسلمين وقتل الكذاب اللعين، وفي تلك الموقعة كانت أم عمارة مع الجيش، وقد حاربت بنفسها حتى جرحت يدها، وأصيبت في هذه الموقعة اثنى عشر إصابة.
وفي عهد أمير المؤمنين، عمر الفاروق، رضي الله عنه، كان لا بد للإسلام لكي يرفع علمه ويثبت قدمه من مواجهة أعظم قوتين تسيطران على ذلك العصر في الشرق، وهما الفرس والروم وأعظم موقعة هدمت بنيان الدولة الرومانية إذا ذاك كانت موقعة اليرموك، كما أن القوة العظيمة التي لم يكن العرش الكياني في الدولة الفارسية يستطيع أن يعد أكثر منها تتمثل في ذلك الجيش الكبير الذي ظهر عند فتح القادسية.
هاتان المعركتان تتمثل فيهما البطولة العظمى والجهاد المجيد الذي مهد الطريق بعد ذلك لانتشار الإسلام بين ربوع الشرق والغرب فيا بعد. ولا نستطيع أن ننسى أن نجاح الإسلام في هاتين الموقعتين كان يرجع الفضل في كثير من نواحيه إلى نساء الإسلام وكلماتهن النارية فقد التقى المسلمون بالفرس عند القادسية سنة 14 هجرية في المحرم وكان الجيش الفارسي في نحو مائة ألف أو يزيدون، ولم يكن جيش المسلمين يزيد على الثلاثين ألفاً، جرح كثيرون منهم، فكان النساء ومعهن الأطفال يقمن بحفر قبور الشهداء ويرفعن الجرحى من الصفوف، ليقدمن لهم ما يستطعن من العلاج والإسعاف.
أما إیقاد الروح المعنوية وإمدادها بنار قدسية من الإيمان الصادق فحدث عن ذلك، فما يستطيع تاريخ في العالم أن يحدثنا عن بلاغة نسوية كتلك الكلمات الخالدة التي تروي لنا عن امرأة نخعية تقول لأولادها:
"إنكم أسلمتم فلم تبدلوا، وهاجرتم فلم تثربوا، ولم تنب بكم البلاد، ولم تقحمکم السنة، ثم جئتم بأمكم عجوزاً كبيرة فوضعتموها بين أهل فارس، والله إنكم بنو رجل واحد كما أنكم بنوا امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، انطلقوا واشهدوا أول القتال وآخره" (انظر الطبري جزء 6 ص 2307).
وقد مضى أولادها بعد وصيتها لهم، وأقبلوا على الميدان شجعاناً مستبسلين. فلما اختفوا عن نظرها توجهت إلى الله داعية لهم بالسلامة والنصر. وبعد أن انتهت المعركة بفوز المسلمين، عاد أولئك الأبناء سالمين مظفرين وألقوا بين يديها الغنائم والأسلاب.
وليس في الناس من يجهل الخنساء التي كانت مضرب المثل في شعر الدموع والرثاء، رفع الإسلام نفسها، وأثار قلبها، ودفع بها الإيمان إلى حرب القادسية اشتركت بأبنائها الأربعة، وقبل أن ينزلوا ساحة الوغى جمعتهم وزودتهم بنار من الإيمان ونور من اليقين، في تلك الكلمات الخالدة:
"يا بني إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله غيره إنكم بنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين، من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون. فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. وإذا رأيتم الحرب شمرت عن ساقها واضطرمت، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة". (أسد الغابة).
ولما كان الصباح احتدم وطيس الحرب، فتقدم أبناؤها الأربعة واشتدوا على عدوهم غير مبالين بالموت حتى قضوا نحبهم جميعاً. ولما بلغ خبر استشهادهم إلى الخنساء لم تجزع بل قالت: الحمد الله الذي شرفني بهم. وقد فرض لها عمر رضي الله عنه من بيت المال ما كانت تحصل عليه من أبنائها، أي ثمانمائة دينار.
وبعد واقعة الجسر التي اشتد فيها ضغط الفرس على المسلمين حدثت معركة عنيفة تسمى «حرب البويب»، وهي التي كانت مقدمة الحرب القادسية، وفيها فاز المسلمون بنصر مبين، ونالوا من الفرس غنائم وفيرة لا تحصى. وإذ ذاك كان نساء المسلمين، قد ضربت لهن الخيام بعيداً عن الموقعة.
ولما كان أمر تدبير الطعام والمؤونة وقد وكل إليهن، فقد أرسل المثنى قائد الجيش ما وقع له من الغنائم الوفيرة إلى خيام النساء في حراسة بعض الجنود. ولما رأى النساء سواد القافلة عن بعد خیل إليهن أن القادمين إنما هم فرقة من الأعداء جاؤوا للإغارة عليهن ولم يكن معهن في ذلك الوقت سلاح يدفعن به هجوم المغيرين، فلم يقفن عاجزات مستسلمات - بل ألقين بأطفالهن وفلذات أكبادهن وأقبلن على أعمدة الخيام وأوتادها يقلعنها ليتخذن منها أسلحة يقمن بها في وجوه الأعداء. ولما رآهن كبير القافلة على هذه الحال صاح صيحة الإعجاب والتمجيد لبطولة جيش الإسلام تلك البطولة التي غمرت الرجال والنساء والكبار والصغار. ثم بشرهن بنصر المسلمين وأدى إليهن الغنائم.
وفي حرب میسان ظهرت للنساء بطولة عجيبة وذلك أن المسلمين التقوا بأعدائهم من أهل میسان قريباً من نهر دجلة بقيادة المغيرة، وكان هذا القائد قد ترك جموع النساء في مكان يبعد عن الميدان، ولما اشتبك الفريقان واستحر القتال، نظرت بنت الحارث فوجدت أن العدو يكاد يحيط بالمسلمين فأشارت على صواحباتها أن من الخير التقدم إلى الجهاد وتقوية ظهور المسلمين، ثم أخذت منديلها فصنعت منه علماً واقتدى بها النساء وسار جميعهن إلى الميدان تحت الأعلام المرفرفة فلما نظر الأعداء إليهن من بُعد ظنوا أن جيش المسلمين أرسل إليه المدد من القوة والعتاد والرجال فأدركهم الرعب واستولى عليهم الهلع والاضطراب فانكسرت شوكتهم وتزعزعت روحهم المعنوية، فولوا مدبرين، وفروا من المسلمين. وكان الفضل في ذلك الفوز للفرقة التي ألفتها بنت الحارث..
وفي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي غرة العام الثالث عشر من الهجرة غزا المسلمون دمشق وحاصروها بعد عدة معارك طاحنة واشتد الأمر على من كان فيها. وبينما المسلمون يحاصرون المدينة بلغهم أن تسعين ألفاً من جنود الروم عسكروا في أجنادین بمعداتهم الحربية القوية، وكان جنود المسلمين إذ ذاك قد انتشروا في مختلف التخوم والأطراف من بلاد الشام، وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه قد انضم إلى أبي عبيدة بعد قدومه من العراق فأجمعا أمرهما على لم شعث الجيش الإسلامي المنتشر بين الأصقاع والمدن وقرروا أن يتوجهوا بالجيش لمحاربة الأعداء في أجنادين، وأخذ الجيش الإسلامي ينصرف عن دمشق يتقدمه خالد، وسار أبو عبيدة خلف الجيش بما معه من عدة وعتاد يصحبه النساء والأطفال.
ولما رأى أهل دمشق انصراف المسلمين عنهم رأوا أن الفرصة قد أتيحت لهم ليثأروا وينتقموا منهم، ثم فتحوا باب المدينة ووثبوا عليهم. وكان قيصر الروم قد أرسل بالمدد إلى دمشق فوصل جنوده في نفس ذلك الوقت وبدأوا يعترضون طريق المسلمين، وكان طباعية أن يجد المسلمون أنفسهم في حصار ضيق بين نارين مستعرتين من الخلف والأمام وفي حالة يضطرب معها الإحساس ويتبلبل معها الشعور وتضيع الثقة، ولكنهم على العكس من ذلك قويت فيهم روح الإيمان والثبات فناضلوا العدو من الجهتين نضال الشجعان والأبطال المؤمنين بنصر الله وتأييده، ولكن همهم الأعظم كان موجهاً إلى المحاربين من الجهة الأمامية فافترض الدمشقيون هذه النهزة للهجوم على المسلمين ورائهم وأحاطوا من معهم من النساء محاولين سبيهن وسوقهن إلى دمشق فنظر بعض النساء إلى بعض وأخذت خولة رضي الله عنها تصيح في جموع النساء بما معناه: هل تقبلن یا معشر المؤمنات أن تقعن في حبائل مشرکي دمشق أساری؟ وهل فيكن من تقبل أن تدمغ بوصمة العار والشنار مجد العرب وبطولة المسلمين، إن الموت لأجدر بنا من حياة الذلة والهوان.
فعلت هذه الكلمات النارية فعلها، فتشجع أولئك الفضليات واستشعرت قلوبهن روح اليقين والثبات فوقفن في صفوف منتظمة وأخذن يقتلعن أعمدة الخيام ليتخذن منها أسلحة ودروعاً يدفعنا بها جيش المشركين. وكان في مقدمتهن خولة ثم عفيرة بنت عفار، فأم أبان بنت عقبة وسلمة بنت نعمان بن مقرن وغيرهن.
وفي مدة وجيزة استطاعت أولئك الخفرات المستبسلات أن يدفعن أمامهن رجال المشركين ويسقطن منهم ثلاثين محارباً يتخبطون في دمائهم. وقد حاول المشركون أن يعاودوا الكرة عليهن فاستبسل المسلمات ودفعنهم إلى الوراء منهزمين مدحورين. ثم أقبل المدد من جيش المسلمين بعد فراغهم من المعركة، فألحقوا بالبقية الباقية من المشركين هزيمة منكرة، ثم ثنى جيش الإسلام عنانه مولياً وجهه شطر أجنادين لإبادة جيوش الروم المجتمعة هنالك.
وقد نقل المؤرخ إدوارد جيبن في تاريخه هذه الوقعة في شيء من التفصيل وتناول بالحمد والثناء تلك العفة والعصمة والبطولة والشجاعة التي تجلت في سجايا المسلمات الفضليات. ثم قال:
"لقد كان هذا الجيش من الجنس الناعم جديرة بالإجلال والتقدير. كانت المسلمات ماهرات في ضرب السيف واستعمال الرماح ورمي السهام، واستطعن بتلك الخلال العالية أن يحافظن على عفافهن في ظرف دقيق وموقف حرج".
ولقد كانت موقعة اليرموك تعد أولى الحروب المنظمة بالنسبة للمسلمين، فقد اشتمل جيشهم فيها على أربعين ألفاً من صفوة الشجعان المنتخبين، وكان جيش الروم يربو على مائة ألف، وكان هذا الطوفان العظيم من الخلائق في جيش الروم مزهو بكثرتها وظن أولئك الجنود أن سيسحقون المسلمين عن بكرة أبيهم بضربة واحدة، وكان عددهم يجاوز أربعة أضعاف الجيش الإسلامي وتقدموا بهذا الغرور وأقاموا من خلفهم استحكامات تمنعهم من الفرار على مثل ما فعل طارق بن زياد فيما بعد. ثم أقبلوا بعد ذلك في هجوم عنيف وأغاروا بعددهم الزاخر حتى دفعوا ميمنة المسلمين وألحقوهم بخيام النساء، وكان في ميسرة جيش المسلمين عدد كبير من قبيلتي لخم وجذام، فهاجم جيش الروم ودفع بهم إلى قرب خيام النساء أيضاً وأخذوا يتقهقرون بغير انتظام، أمام حكامهم القدماء، فثارت الغيرة والحمية على أشدهما في قلوب أولئك النساء وبرزن من خيامهن ليقتلعن أعمدتها ويحملن ما استطعن حمله من السلاح ثم أقبلن على العدو فأنزلن به هزيمة نكراء، وأخذ أولئك الذين كانوا يندفعون كالسيل الجارف يرتدون مولين الأدبار ثم عاد أولئك الفضليات إلى رجال المسلمين يشعلن في قلوبهن نيران الغيرة والحمية، فعاد الجيش الإسلامي إلى نظامه وأزاح من أمامه ذلك الطوفان من جيش الأعداء.
وكان نساء قریش كذلك يتقدمن بذلك الإيمان الصادق حتى دفعن الأعداء من أمامهن وتقدمن صفوف الرجال في تلك الموقعة. وقد تقدمت جويرية أخت معاوية بفرقة من النساء، وأخذت تناضل حتى جرحت. وما زالت صيحات أم معاوية هند بنت عتبة تتردد بكلمات الشجاعة في مسمع أجيال التاريخ! وما أعظم تلك الحمية التي تجلت في خولة بنت درار، وهي تنشد الأشعار، وتدفع بالأبطال إلى خوض الغمار وهي تقول:
وقد نوه الطبري في تاريخه بفضل أم حكيم بنت حارث. وذكر ابن الأثير الجزري أن أسماء بنت يزيد قتلت وحدها تسعة من جنود الروم. كما حدثنا ابن عمر الواقدي عن أولئك الأعلام من الفضليات اللائي أبلين في هذه الحرب خير بلاء، فمنهن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وزوج عبادة بن الصامت من رواة الحديث وخولة بنت ثعلبة وكعوب بنت مالك وسلمى بنت هاشم وعفيرة بنت عفارة رضي الله عنهن.
مضى المسلمون بعد حرب «اليرموك» يتعقبون جيش الروم، وأقاموا قريباً من دمشق، وهنالك تزوج خالد بن سعيد من أم حكيم بنت الحارث، وأقام وليمة فاخرة للمسلمين، وضرب قبة لأم حكيم على مقربة من جسر لا يزال يسمى باسمها حتى الآن.
وبينما كان المسلمون في شغل بالوليمة وأطعمتها أقبل نذير جيش الروم فرفعوا أيديهم من صحاف الطعام، إلى امتشاق الحسام. ثم وثبوا على الروم وثبة الأسود الغضاب، وأسكنوا في صدورهم الأسنة والحراب، حتى مزقوهم أشتاتاً بين الربا والهضاب.
أما «أم حكيم» فلم تنس نصيبها من البطولة والشجاعة، فنسيت زينة العرس وحلة الزفاف، وأقدمت لارتداء حلة الشرف والاستبسال ونسيت أنوثتها وقاتلت بعزيمة الرجال فأبادت من جيش الروم سبعة من المحاربين وربما قتلت أكثر من ذلك.
وليست العبرة بالقتل ولا بالمقتولين، وانما العبرة بالإيمان والعزم واليقين.
ولو سلمنا برواية الواقدي عن فتوحات الشام للزمنا أن نذكر للمرأة أكثر مما نذكر عن الرجل في كثير من تلك الفتوحات. وقد حدثت موقعة الجمل وكانت عائشة الصديقة رضي الله عنها أحد رکني النضال فيها، وكلنا نسلم بأنه قد وقع خطأ اجتهادي في هذه الموقعة. والمجتهد يثاب على خطئه، ولكننا نرى في هذه الحادثة كيف يسمو مركز المرأة المسلمة ويعلو شأنها في الاستقلال، وتحمل مسؤولية النضال.
ولعلك تذكر فيما أسلفنا أسماء أم حكيم وهند وأم أبان وأم عمارة وخولة ولبنى وعفيرة، فقد تحدث عنهن الواقدي في فتوحات الشام، ومن رواياته يتبين أن أولئك الفضليات قد أبلين بلاء المؤمن الصادق وساهمن مع الرجال في إدارة رحى القتال، بما خلد أسماءهن في صحائف الأجيال.
وقد كان عتبة بن غزوان أميراً على بعض الجيوش من قبل عمر رضي الله عنه، فلما التقى بأهل مدينة الفرات كانت زوجه أزدة بنت الحارث طبيب العرب تقوم بدورها في تشجيع الناس وإذكاء نار الحمية والغيرة في قلوبهم مما كان له عظيم الأثر في اكتساب النصر والظفر.
وعندما استشهد أبان بن سعيد أثناء الحملة على دمشق بيد حاكمها (توما)، كان وقع نبأ قتله أليماً في قلب زوجته أم أبان بنت عتبة فهاجها مقتله وخرجت بكل سلاح أمكنها ومضت تطلب الثأر من القاتل الآثم لزوجها المقتول. وقد صابرت الأعداء مدة وكانوا محاصرين داخل المدينة إلا أنهم كانوا يواجهون المسلمين من بعض الأبراج، فلمحت أم أبان بعض فرق الجيش متجمعين في برج منها، وأمامهم الكاهن يحمل صليباً ذهبياً كبيراً ويدعو أربابه الثلاثة للنجدة والإنقاذ، وكانت أم أبان ذات براعة فائقة في تسديد الرماية، فوجهت ضربة قاصمة وسهماً نافذة إلى حامل ذلك الصليب. فما لبث الناس أن أخذتهم الدهشة واستولى عليهم العجب حينما رأوا ذلك الصليب الذهبي يهوي على الأرض بجانب القلعة محطماً قد تناثر إلى قطع وجذاذات.
وقد هال الجيش المحاصر ما صنعت هذه المرأة بذلك الشيء المقدس في نظرهم وقد هوى على الأرض في ذل وهوان وهو موضع الشفاعة والقربان، فثارت فيهم النعرة الصليبية ونسوا التضييق والحصار، وثار قائدهم «توما» ففتح باب القلعة وانساب جيش الروم كأنه سيل يجتاح السد والجسور، وقد أخذ المسلمين شي من الرعب أول الأمر لما رأوا من اندفاع القوم بلا تؤدة ولا روية، وكانوا يحاولون أن يستردوا صليبهم الذهبي بأي ثمن، وكلما اقترب منه جندي وقفت له «أم أبان» بالمرصاد ترشقه السهم النافذ في صميم الفؤاد فترديه إلى الأرض صريعاً، إلا أن توما، قائد القوم لم يجد في نفسه صبراً على ترك الصليب في أيدي المسلمين، فتقدم في جرأة لا تعرف الهوادة فأدركته «أم أبان» بسهم نفذ إلى عينه فذهل عن الدنيا وعن الجيش والصليب وعن نفسه أيضاً، وأخذ يدور في الميدان يبحث عن الموت أو يبحث الموت عنه. وقالت «أم أبان» في ذلك رجزاً:
قد ضج جمع القوم من نبالك
وفي حروب اليرموك كان أشد أيامها يوم التعوير، وفيه اشتد الأمر على المسلمين وكادوا يولون الأدبار لولا أن وقف النساء يرددن جيوش الروم بما فيهن من إيمان وغيرة حولت أنوثتهن الناعمة إلى بطولة خشنة تستهين بالموت، وتفرح بالاستشهاد في سبيل إعلاء كلمة الله. وكانت أسماء بنت أبي بكر إلى جانب زوجها الزبير رضي الله عنها تقاتل جنباً إلى جنب على جوادها.
وقد روت لنا مصادر التاريخ في حرب صفين مواقف عظيمة للمرأة، وحوار الزرقاء مع معاوية بعد قتل علي كرم الله وجهه يدل على مقدار مساهمة المرأة في الحرب إن لم يكن بالسلاح بالتحريض الذي هو أمضى من الأسلحة وأنفذ من الرماح. وقد وقفت الزرقاء وأم الخير وغيرها من النساء تحرضن الرجال بالخطب المثيرة والكلمات القوية المؤثرة مما لا يزال كثير منه محفوظة في كتب الأدب والتاريخ.
وفي خلافة الوليد بن عبد الملك سنة 90 هجرية هجم جيش المسلمين على بخارى، وكان قتيبة بن مسلم قد تولى قيادة الجيش، وكانت قبيلة أزد مضرب المثل في الشجاعة والاستبسال بين قبائل العرب، وكان لرجالها في الفتوحات الإسلامية أحسن الأثر أيضاً فلما رأوا طوفان الجيش التركي مقبلاً من بخاری، استأذن رجال تلك القبيلة قتيبة ليتقدموا في الطليعة فأذن لهم والتحموا بأتراك بخاری، ولكنهم وجدوا أمامهم أقداماً ثابتة لا تتزلزل، فحمی الوطيس واستحر القتال إلى أن هزم أولئك الأزديون وارتدوا إلى مراكز الجيش وتعاظم الأمر قتيبة ومن معه، وكاد عسكر المسلمين یولون فراراً في غير انتظام، فثار النساء من كل مكان وتصايحن بالجنود وأخذن يضربن الخيول ويرددن الفرسان إلى الميدان فعادوا وثبوا وثبة كتبت لهم النصر والفوز المبين.
إن النساء المسلمات لم يحملن في هذه الحرب أسلحة ولا دروعاً، ولكن جهادهن لم يكن أقل من السيوف مضاء، فإليهن يرجع الفضل في كسب تلك المعركة بعد الهزيمة فيها.
إن تعاليم المدنية الغربية تنقل إلينا تاريخ أبطال الغرب من رجال ونساء. وقد أصبحت أدمغة الشباب سجلاً لأسماء النابغين والنابغات من الغرب ومحيت من الذاكرة أسماء رجال الشرق ونسائه على السواء. لقد غدا لفظ «جان دارك» ومثيلاتها الشغل الشاغل لكل من يريد أن يتحدث عن البطولة أو يتناول صحائف تاريخ المجد. وقد سمعت أيها القارئ كيف وصل السمو الخلقي والديني بالمرأة المسلمة إلى الحد الذي سجلت به اسمها على جبين الدهر، وساهمت في أعظم الانتصارات الإسلامية الباهرة، ولن يستطيع كتاب الغرب ولا أذنابهم في الشرق أن يأتوا بأسماء ولا بحوادث ترفع مقام المرأة في العالم مثل تلك الحوادث الجليلة والأسماء النبيلة (قل هاتوا برهانكم إن کنتم صادقين).
لا يخفى ما قام به الخوارج في أواخر عصر الخلفاء الراشدين وبعدهم من الأعمال الإرهابية العنيفة التي عرضت أعناقهم للسيوف وأوردتهم موارد الحتوف ولكن شجاعتهم واستبسالهم كان لهما أثر بالغ في بقاء جماعتهم طوال الأجيال المتعاقبة، ولا تزال لهم بقية باقية حتى الآن في بعض الأقطار الإسلامية.
نذكر هذا بمناسبة ما كان يبدو من بعض نسائهم فضلاً عن رجالهم من ضروب المقاومة والشدة في المخاصمة. ونحن في صدد الكلام عن مقام المرأة في الإسلام، لا يسعنا أن نهمل المواقف المشرفة للمسلمة كيفما كانت النحلة والمذهب الذي تنتمي إليه، فهي مسلمة على كل حال.
في سنة 77 هجرية كان الحجاج والياً على العراق من قبل الخليفة عبد الملك وفي تلك الأثناء قام شبيب الخارجي في الموصل بثورة ضد الخلافة واشتركت في هذه الحرب زوجه غزالة وأمه جهیزة، فأرسل الحجاج حملة قوية للقضاء على هذه الفتنة، وأرسل خمسة قواد كان نصيبهم جميعاً القتل دون أن يظفروا بطائل، وأخيراً أرسل عبد الملك جيشاً عظم من جنود الشام قاده الحجاج بنفسه. وفر شبيب من الموصل إلى الكوفة، ولكن الحجاج كان قد سبقه إليها ووصل إلى قصر الإمارة وجاءت غزالة الآنفة الذكر لتوفي نذراً سابقاً كان عليها وهو أن تصلي ركعتين بمسجد الكوفة، فأقبلت في صحبة زوجها يحيط بهم سبعون من أنصارهم ووقف شبیب خارج المسجد مجرداً سيفه، وأقامت صلاتها فأدت ركعتين قرأت في أولاهما بعد الفاتحة سورة البقرة، كما قرأت آل عمران في الثانية وهي مثال للاطمئنان يملأ قلبها السكينة والخشوع في الركوع والسجود، وفي القيام والقعود. تفعل ذلك على مرأى ومسمع من جنود الشام وهم يملأون الكوفة ومسجدها وينظرون إلى تلك المصلية نظرة يملؤها العجب والإعجاب معاً بتلك النفس التي لا تبالي بأن تجاهر بمعتقدها بين الحراب المسنونة والسيوف المصلتة بأيدي عشرات الألوف من جيش الشام والعراق.
خرج الحجاج لتلك الحرب مجهزاً بأقوى عتاد من البصرة والكوفة والشام وقام خلف الصفوف بنفسه يحرض تلك الجموع الزاخرة واعداً ومتوعداً. وكان جيش الخوارج هزيلاً ضئيلاً إلا أنه ثبت أمام الكثرة الساحقة من رجال الحجاج ولكنه مهما بذل وحاول فقد كانت الهزيمة أمراً لا مناص منه. وكانت غزالة وجهيزة تشتركان في الحرب وتساهمان فيها بشجاعة منقطعة النظير، إلى أن أرسل الحجاج بعض رجاله سراً خلف الصفوف لقتل غزالة، أما شبيب فقد فر إلى الأهواز - تاركاً خلفه عدداً كثيراً من القتلى.
وهنا يقول ابن خلكان: أن جهيزة أيضاً قضت نحبها في هذه الحرب، بيد أن الطبري وابن الأثير يذكران أن شبيباً قد سقط به فرسه في دجلة عندما كان يجتاز جسر النهر، وكان إذ ذاك في دروعه وأسلحته فلم يملك سبيلاً إلى النجاة. ولما قيل لأمه: إن شبيباً قد مات قالت: إما بيد الأعداء فلا. ثم قيل لها: أنه قد غرق قالت: ذلك ممكن.
ويروى كذلك أن غزالة قد بارزت الحجاج فلم يثبت أمامها بل رجع القهقرى ولاذ بالفرار. هذا الحجاج الذي كانت ترتعد فرائس العراق وتهتز جوانب الجزيرة تحت أقدامه رهبة وخشية، استطاعت تلك المرأة الجريئة أن تزلزل طغيان هذا الجبار وترده خائفة مذعورة. وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
وفي سنة 139ه في عهد خلافة المنصور اعتدى قيصر الروم على مدينة «ملطية» فخربها. فوجه المنصور لتأديب ذلك القيصر والانتقام من عدوانه جيشاً عظيماً على رأسه صالح بن علي وعباس ابن محمد. واستطاع ذلك الجيش الظافر أن يعيد إلى المدينة عمرانها وازدهارها وواصل المسلمون زحفهم حتى استولوا على مقاطعات أخرى واقتربوا من القسطنطينية.
ومما هو جدير بالتخليد أن أم عيسى بنت علي ولبابة بنت علي أختي صالح خالتي المنصور، ومعهن فضليات النساء شهدن هذه المواقع وسعدن بالاشتراك في تحقيق تلك الانتصارات الباهرة.
وكان شهودهن لهذا الغزو وفاء منهن فقد سبق لهن في خلافة بني أمية أن عقدن لله نذراً أن يجاهدن في سبيل الله إذا زال الحكم الأموي من الخلافة الإسلامية.
وفي سنة 178 ه حدثت في خلافة الرشيد فتنة من الخوارج وكان على رأس القائمين بها ولید بن طريف، فاستولى هو وجماعته على الخابور ونصيبين. ثم وجه الخليفة لإخماد تلك الفتنة جيشاً بقيادة يزيد الشيباني وكان من المشهود لهم بالبراعة الحربية والإقدام الفائق فحارب الخوارج وهزمهم بعد بضعة معارك وقتل رئيسهم الوليد. ولما سمعت فارعة أخته بمصرع أخيها ثارت ثائرتها وخرجت من خدرها وجردت من أنوثتها بطلاً شجاعاً يتقدم إلى الميدان ولا يبالي بالموت. وهكذا لبست الدروع وتقلدت السيف وتقدمت للنضال، فبرز لها یزيد نفسه ولما رآها طعن بالرمح فرسها ثم وجه إليها شيئاً من العتاب لإقدامها على موقف ينال من سمعة أهلها وكرامة قومها، فعادت من الميدان مخضبة بدموع الحسرة والألم لا يردها عن حومة الوغى جبن ولا خوف، ولولا ما كان يلحقها من سوء السمعة في تهورها وجرأتها على ما ليس من شأن النساء لما ردها عن الميدان سوى الأجل المحتوم. وقد تركت لنا من ذكريات ألمها هذه الأبيات:
وقد بلغت هذه المرثية مقاماً عالياً من الشهرة والذيوع فقد نقلها أبو علي القالي في أماليه، بينا نرى ابن خلكان يعدها في مصاف مراثي الخنساء، ويقدمها علماء البديع كمثال حسن في باب تجاهل العارف من قسم المحسنات المعنوية للكلام وقد ذكرت أخت الوليد باسم فارعة ما سبق، وقد عرفها ابن الأثير باسم ليلى، وابن خلدون يقص الواقعة دون أن يذكر اسمها، وربما عرفت في بعض المواضع باسم فاطمة، ولكن المهم على كل حال هو الأعمال، لا الأسماء والأقوال.
وفي القرون الوسطى عندما اشتعلت نار الحرب الصليبية على أشدها كان من بين أمراء الجيوش قائد يسمى (أسامة)، وكان في صحبته والدته وأخته، وقد ساهمت كلتاهما في الحرب متقلدة السلاح ناسية الحلي الجميلة بالدرع الرهيبة حتى سجلتا للمرأة المسلمة نصيبها من الانتصار، ومكانتها من ذروة الفخار. وفي أزمنة هذه الحروب الصليبية كانت الأمهات يرضعن أطفالهن أفاويق الشجاعة ولبان التضحية ويعلمنهم حب الإسلام قبل أن يشبوا عن الأطواق.
ولما أحرز الصليبيون بعض الانتصارات واستولوا على عكة أصبح الاختلاط بين الفريقين المتحاربين أمراً عادياً فحاول الصليبيون أن يقوموا بامتحان الذرية الناشئة واختبار الجيل القادم فأقاموا حرباً شكلية بين أطفال المسلمين وأبنائهم، وفي تلك الحرب كانت دروس الأمومة قد آتت أكلها وأنضجت ثمارها في أبناء المسلمين فغلبوا أعداءهم الصغار وأخذوهم في ذل الأسار، وكتبوا للإسلام في هذا الدور من اللعب مثالاً جميلاً من الفوز والانتصار.
وسوم: العدد 862