سودان التطبيع: أوهام القراءات الحمقاء
أعلن المتحدث باسم الجيش السوداني أنّ لقاء عنتيبي، في أوغندا، بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، جرى “بمعرفة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وعلمه”؛ فردّ الناطق الرسمي باسم الحكومة، مؤكداً أنّ البرهان “لم يشاور الأجهزة ولم يطلعها على اللقاء”. أحدهما (أم كلاهما؟) كاذب بالطبع، على نحو آو آخر؛ خاصة وأنّ رئيس الوزراء عبد الله حمدوك سارع بعدها إلى الثناء على “التعميم الصحافي” الذي أصدره البرهان لاحقاً، وتضمن طمأنة الحكومة بأنّ “بحث وتطوير العلاقة بين السودان وإسرائيل مسؤولية المؤسسات المعنية بالأمر، وفق ما نصت عليه الوثيقة الدستورية”.
في المقابل، للمرء أن يقتفي خلفيات أخرى ملموسة لهذه الحال، التي تبدو عالقة من حيث الشكل والسطح فقط؛ لكنها، في المحتوى والعمق، لا تلوح مآلاً منتظَراً من داخل معطيات التناقض الظاهري فقط، بل تعكس واحدة من أبكر اختبارات صيغة التعاقد بين العسكر والمدنيين. بين أبرز الخلفيات ذلك الاستقطاب الواضح إزاء لقاء البرهان ــ نتنياهو في عنتيبي؛ بين الجيش، الذي أعلن أنه “عُقد اجتماع بالقيادة العامة وأمّن على نتائج زيارة القائد العام لأوغندا ومخرجاته بما يحقق المصلحة العليا للأمن الوطني والسودان”؛ و”قوى الحرية والتغيير”، الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، التي وصفت اللقاء بـ”الأمر المخلّ الذي يلقي بظلال سالبة على الوضع السياسي بالبلاد”، وأنّ “ما تمّ يشكل تجاوزاً كبيراً نرفضه بكل حزم ووضوح”.
ومن المرجح أن يتواصل هذا الاستقطاب التنافري طوال 21 شهراً من رئاسة العسكر للمجلس، ثمّ على امتداد 18 شهراً بعدها تُعقد خلالها الرئاسة للمدنيين؛ ضمن تقاسم للسلطة بالغ الهشاشة والحساسيات، بين الضباط الخمسة والمدنيين الخمسة وعضو الإجماع المدني الحادي عشر في تركيبة المجلس. وليست قضايا الداخل يسيرة الحلّ أو هيّنة التوافق، إذْ تبدأ من الأسباب المعيشية ذات الصلة بمختلف مستويات الحياة اليومية، التي دفعت الشارع الشعبي السوداني إلى الانتفاض ضدّ نظام عمر البشير؛ وهي تمرّ بمعضلات دَيْن مباشر يتجاوز مليارَي دولار، وآخر وطني بلغ 60 مليار دولار، ومعدّل بطالة يقارب 18%، وتضخّم تجاوز الـ60%؛ ولا تنتهي، استطراداً، عند مشكلات شرق السودان والمحافظات حمّالة الاحتقان المتفجر التي تهدد بإنتاج دارفور جديدة، ومفاوضات جوبا المتعثرة؛ فما بالك بتورّط السودان في مشكلات سدّ النهضة، والصراع في ليبيا، والقوات المرابطة في اليمن…
وبمعزل عن ضحالة قراءة البرهان للمنافع التي يمكن أن يجلبها التطبيع السوداني مع دولة الاحتلال، إذْ في وسعه إجراء مقارنة بسيطة مع ما جنته أنظمة أخرى عربية طبّعت مع الكيان الصهيوني؛ فإنّ امتثاله للإرادة الأمريكية التي دفعت نحو إجراء اللقاء، حسب اعترافه رسمياً، ينطوي كذلك على حماقة صارخة في إدراك الحدود القصوى التي يمكن للإدارة الأمريكية الراهنة أن تمنحها للسودان. صحيح أنّ البلد قد يُرفع، بالفعل، من اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، خاصة إذا مضى المجلس الانتقالي خطوة دراماتيكية أبعد فسمح بصيغة من نوع ما، تتيح مثول البشير أمام محكمة الجنايات الدولية. وصحيح، كذلك، أنّ الخزانة الأمريكية قد تشجع مؤسسات رأسمالية كبرى مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، على إعادة إقراض السودان وتخفيف شروط خدم الديون.
ولكن ليس أقلّ صحة، في المقابل، أنّ الاشتراطات، التي تطلبها هذه المؤسسات الدولية عادة، سوف تعيد جموع الشعب السوداني إلى شوارع الاحتجاج مجدداً؛ وأنّ البيت الأبيض ليس قادراً على نقض قرارات قضائية أمريكية، ألزمت السودان بدفع تعويضات لـ224 من ضحايا هجمات 1998 على سفارتَيْ الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام، تبلغ 5,9 مليار دولار! والأهمّ استطراداً، وهو الجوهري أيضاً، أن يبدأ جنرالات السودان بالتطبيع الذاتي مع الشعب السوداني، وانتهاج سلوك في تقاسم السلطة يحكّ مشكلات الداخل المستعصية بظفر وطني، وليس بأنياب دولة احتلال استيطانية عنصرية.
هيهات أن يفعلوا، أغلب الظنّ؛ فهم من طينة استحال على دهر الشرق الأوسط أن يشهد لها صلاحاً.
وسوم: العدد 864