تقريظ معالم السنة

الشَّيخُ الدّكتور ذيابُ بنُ سَعْد الغامديّ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِهِ ورَسُولِهِ المَبْعُوثِ رَحْمَةً للعَالَمِيْنَ.

أمَّا بَعْدُ؛ فَإنَّ أصْدَقَ الحَدِيْثِ كِتَابُ اللهِ، وخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وكُلَّ ضَلالَةٍ في النَّارِ.

وبَعْدُ؛ فَقَدْ قَيَّضَ اللهُ تَعَالى لحِفْظِ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ جَهَابِذَةً مِنَ الحَفَّاظِ النُّقَّادِ، وجَعَلَهُم ذَابِّيْنَ عَنْهَا في جَمِيْعِ الازْمَانِ والبِلادِ، بَاذِلِيْنَ وُسْعَهُم في تَبْيِيْنِ صَحِيْحِهَا مِنْ ضَعِيْفِهَا، ولَا يَزَالُ على القِيَامِ بذَلِكَ ـ بحَمْدِ اللهِ ولُطْفِهِ ـ جَمَاعَاتٌ وآحَادٌ، مُسْتَمَرِّيْنَ على ذَلِكَ في جَمِيْعِ الاعْصَارِ والبِلادِ!

فَكَانَ مِنْ بَقَايَا هَؤلَاءِ الأئِمَّةِ الكِبَارِ شَيْخُنَا المُحَدِّثُ المُعَمَّرُ/ صَالِحُ بنُ أحْمَدَ بُوْبِس الشَّامِيُّ حَفِظَهُ اللهُ وشَفَاهُ، وبَارَكَ في عِلْمِهِ وعُمُرِهِ، اللَّهُمَّ آمِيْنَ!

وسَيَأتي الحَدِيْثُ عَنِ الشَّامِي صَالِحٍ، وعَنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ: «مَشْرُوعِ تَقْرِيْبِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ المُطَهَّرَةِ».

* * *

ومِنْ قَبْلُ؛ فَإنَّ أخْبَارَ الأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ، والوُقُوفَ مَعَ فَوَائِدِهَا: فَنُّ لَا تَنْقَطِعُ عَجَائِبُهُ، ولَا تَنْتَهِي فَرَائِدُهُ... فَكَانَ مِنْ خَبَرِ تِلْكُمُ الأحَادِيْثِ: أنَّنِي كُنْتُ مُولَعًا دَوْمًا بالنَّظَرِ إلى فَوَائِدِ حَدِيْثِ النَّبِيِّ ﷺ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» أخْرَجَهُ مَالِكٌ في «المُوَطَّإ».

فَكَانَ مِمَّا أوْقَفَنِي مَعَ هَذَا الحَدِيْثِ: سُؤالٌ طَالَمَا حَيَّرَني كَثِيْرًا وأشْغَلَنِي سِنِيْنًا، الأمْرُ الَّذِي جَعَلَنِي أقِفُ أمَامَهُ حَائِرًا مِنْ خِلالِ سُؤالٍ وَاحِدٍ، كَمَا يَلِي:

مَا هِيَ «أحَادِيْثُ السُّنَّةِ» الَّتِي تَجِيءُ بَعْدَ القُرْآنِ الكَرِيْمِ، أيْ: مَا هِيَ الأحَادِيْثُ الَّتِي تَكْفِي عُمُومَ المُسْلِمِيْنَ بأنْ تُنْجِيْهِم مِنْ مُضِلَّاتِ الفِتَنِ، كَمَا قَالَهُ ﷺ؟

وبمَعْنَى آخَرَ: مَا هُوَ «كِتَابُ السُّنَّةِ» الَّذِي سَوْفَ تُغْنِي أحَادِيْثُهُ ـ في مُجْمَلِهَا ـ عَنْ غَيْرِهِ ولَا يُغْنِي عَنْهُ غَيْرُهُ؟

فمِنْ هُنَا؛ كُلَّمَا نَظَرْتُ إلى «كُتُبِ السُّنَّةِ»، وتَصَفَّحْتُ أحَادِيْثَهَا، قُلْتُ في نَفْسِي: إنَّ أحَادِيْثَهَا كَثِيْرَةٌ جِدًّا؛ بحَيْثُ إنَّهَا تَفُوقُ الحَصْرَ؛ فَضْلًا عَنْ حِفْظِهَا أو النَّظَرِ في آحَادِهَا، فَشَيْءٌ هَذَا سَبِيْلُهُ فِيْهِ مَا فِيْهِ مِنَ المَشَقَّةِ على عُمُومِ المُسْلِمِيْنَ ـ خَلا عُلَمَائِهَا ـ، هَذَا إذَا عَلِمْنَا جَمِيْعًا: أنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ سَمْحَةً مُيَسَّرَةً، ورَافِعَةً للحَرَجِ والمَشَقَّةِ!

فَأيْنَ ـ حِيْنَئِذٍ ـ مَوْقعُ عُمُومِ المُسْلِمِيْنَ مِنْ حَدِيْثِ النَّبِيِّ ﷺ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ»!

فَلَيْتَ شِعْرِي؛ هَلْ تَكْفِي أحَادِيْثُ «الصَّحِيْحَيْنِ» ـ البُخَارِي ومُسْلِمٍ ـ عَنْ عَامَّةِ أحَادِيْثِ كُتُبِ السُّنَّةِ؟

قُلْتُ هَذَا مِرَارًا في نَفْسِي!

ومَرَّةً أقُولُ: لَوْ جُمِعَتْ مَعَ «الصَّحِيْحَيْنِ»: «السُّنَنُ الأرْبَعُ»، فَتَكُونُ سِتَّةَ كُتُبٍ حَدِيْثِيَّةٍ!

ورُبَّمَا قُلْتُ في نَفْسِي: لَيْتَهَا تُجْمَعُ هَذِهِ «الكُتُبُ السِّتَّةُ» مَعَ «مُسْنَدِ أحْمَدَ»، و«مُوَطَّإ مَالِكٍ»!

ورُبَّما سَاوَرَتْنِي نَفْسِي ـ عَبَثًا ـ بقَوْلِهَا: لَيْتَ هَذِهِ «الكُتُبُ الثَّمانِيَةُ» تُجْمَعُ أيْضًا مَعَ كِتَابِ: «سُنَنِ الدَّارِمِي»، و«السُّنَنِ الكُبْرَى» للبَيْهَقِي، و«صَحِيْحِ ابنِ خُزَيْمَةَ»، و«صَحِيْحِ ابنِ حِبَّانَ»، و«مُسْتَدْرَكِ الحَاكِم»، و«الأحَادِيْثِ المُخْتَارَةِ» للضِّيَاءِ المَقْدَسِي، وهَكَذَا في سِلْسِلَةٍ لَا تَنْهَيِ مِنْ جَمْعِ أُمَّاتِ كُتُبِ السُّنَّةِ!

لكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! فَقَدْ عَادَ السُّؤالُ جَذَعًا: مَنْ يَقْوَى على تَحْصِيْلِ جَمْهَرَةِ أحَادِيْثِ كُتُبِ السُّنَّةِ؛ لَاسِيَّما عُمُومَ المُسْلِمِيْنَ الَّذِيْنَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ ويَخَافُونَ عَذَابَهُ، ويُحِبُّونَ اللهَ والدَّارَ الآخِرَةَ، ولَا يَجِدُونَ في أنْفُسِهِم حَرَجًا مِنَ الامْتِثَالِ لقَوْلِهِ ﷺ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ»!

لأجْلِ هَذَا؛ فَقَدْ تَقَاذَفَتْنِي الأمَاني ـ شَرْقًا وغَرْبًا ـ في بُحُورِ أفْكَارِ «لَيْتَ»، و«عَسَى»: مَنْ يَجْمَعُ لَنَا أحَادِيْثَ هَذِهِ الكُتُبِ ـ الأرْبَعَةَ عَشَرَ ـ في غَيْرِهَا؛ حَتَّى تَكُونَ مَشْرُوعًا بَيْنَ يَدَيْ كُلِّ مُسْلِمٍ، ثُمَّ يَقُومُ بَعْدَئِذٍ بحَذْفِ أسَانِيْدِهَا ومُكَرَّرَاتِهَا بِشَيْءٍ مِنَ التَّحْرِيْرِ والصِّنَاعَةِ الحَدِيْثِيَّةِ، مَعَ تَعْلِيْقَاتٍ مُخْتَصَرَةٍ تُبَيِّنُ مُشْكِلَهَا وتَكْشِفُ غَامِضَهَا... وهَكَذَا غَدَتْ تِلْكُمُ الأمَاني تَسْرَحُ في فَيَافي الفِكْرِ وقِفَارِ الذِّكْرِ؛ حَتَّى غَدَتْ ـ وللهِ الحَمْدُ والمِنَّةُ ـ: أُمْنِيَةً قَائِمَةً، وغَايَةً عِلْمِيَّةً، وطِلْبَةً حَدِيْثِيَّةً!

فَقَدْ قَيَّضَ اللهُ لَهَا: رَجُلًا صَالِحًا صَادِقًا؛ حَيْثُ جَمَعَ أحَادِيْثَ أرْبَعَةَ عَشَرَ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ المُعْتَمَدَةِ عِنْدَ عُمُومِ المُسْلِمِيْنَ ـ كَمَا مَرَّ مَعَنَا ذِكْرُهَا ـ، ثُمَّ لَمْ يَفْتَأ أنْ كَرَّ عَلَيْهَا كاللَّيْثِ الهِزَبْرِ: بقَلَمِ الاخْتِصَارِ والتَّحْقِيْقِ والتَّحْرِيْرِ، كُلُّ ذَلِكَ بمَنْهَجٍ عِلْمِيٍّ، وطَرِيْقَةٍ مُحَرَّرَةٍ... مَا تَقَرُّ بِهِ عِيُونُ الصَّالِحِيْنَ، وتُسَرُّ بِهِ قُلُوبُ المُؤمِنِيْنَ!

* * *

إنَّهُ شَيْخُنَا شَامَةُ الشَّامِ وحَسَنَةُ الدُّوْمَةِ ونُوْرُ الرِّيَاضِ: صَالِحُ بنُ أحْمَدَ الشَّامِيُّ حَفِظَهُ اللهُ ورَعَاهُ؛ حَيْثُ قَامَ بجَمْعِ أحَادِيْثِ أرْبَعَةَ عَشَرَ كِتَابًا مِنْ عُيُونِ كُتُبِ السُّنَّةِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الإسْلامِ وأرْكَانُ الإيْمَانِ، فَهَاكَ جَرِيْدَتَهَا كَمَا يَلي:

(1) صَحِيْحُ البُخَارِي، (2) صَحِيْحُ مُسْلِمٍ، (3) جَامِعُ التِّرْمِذِي، (4) سُنَنُ أبي دَاوُدَ، (5) سُنَنُ ابنِ مَاجَه، (6) سُنَنُ النَّسَائي، (7) مُسْنَدُ أحْمَدَ، (8) مُوَطَّإ مَالِكٍ، (9) سُنَنُ الدَّارِمِي»، (10) السُّنَنُ الكُبْرَى للبَيْهَقِي، (11) صَحِيْحُ ابنِ خُزَيْمَةَ، (12) «صَحِيْحُ ابنِ حِبَّانَ، (13) مُسْتَدْرَكُ الحَاكِم، (14) الأحَادِيْثِ المُخْتَارَةِ للضِّيَاءِ المَقْدَسِي، فَهَذِهِ أرْبَعَةَ عَشَرَ كِتَابًا كَامِلَةً!

وقَدْ ضَمَّتْ هَذِهِ الكُتُبُ الحَدِيْثِيَّةُ في مَجْمُوعِهَا: (114194) حَدِيْثًا!

وهَذَا عَدَدٌ كَبِيْرٌ جِدًّا، ومَسْلَكٌ وَعْرٌ لَا يُطِيْقُهُ إلَّا آحَادُ العُلَمَاءِ؛ لكِنَّ الشَّيْخَ المُبَارَكَ: صَالِحًا الشَّامِيَّ لَمْ يَقِفْ بقَلَمِهِ وجُهْدِهِ عِنْدَ هَذَا الجَمْعِ العَظِيْمِ والعَدَدِ الكَبِيْرِ، بَلْ أدَارَ جَمْهَرَةَ أحَادِيْثِ هَذِهِ الكُتُبِ  الحَدِيْثِيَّةِ على مَنْهَجٍ عِلْمِيٍّ مُتْقَنٍ، كَمَا يَلِي:

أوَّلًا: قَامَ حَفِظَهُ اللهُ بحَذْفِ أسَانِيْدِهَا ومُكَرَّرَاتِهَا بطَرِيْقَةٍ حَدِيْثِيَّةٍ مُحَرَّرَةٍ؛ حَتَّى عَادَتْ أحَادِيْثُهَا بَعْدَئِذٍ أقَلَّ بكَثِيْرٍ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ في أُصُولِهَا؛ حَيْثُ بَلَغَتْ ـ والحَالَةُ هَذِهِ ـ: (28430) حَدِيْثًا!

ثَانِيًا: قَامَ بَعْدَئِذٍ بانْتِقَاءِ أحَادِيْثِهَا وفَرْزِ أُصُولِهَا؛ حَيْثُ انْتَقَى مِنْهَا الأحَادِيْثَ الَّتِي يَكْفِي مَجْمُوعُهَا عَنْ سَائِرِ بَاقِي الأحَادِيْثِ، فَبَلَغَتْ ـ والحَالَةُ هَذِهِ ـ بَعْدَ الاخْتِيَارِ والانْتِقَاءِ: (3921) حَدِيْثًا، تَمَّ اخْتِيَارُهَا مِنْ: (28430) حَدِيْثًا!

فمِنْ هُنَا؛ قَامَ شَيْخُنَا الشَّامِيُّ حَفِظَ اللهُ: بجَمْعِ هَذِهِ الأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي بَلَغَتْ (3921) حَدِيْثًا: بفَرْزِهَا بَعْدَ جَمْعِهَا، وتَنْسِيْقِهَا بَعْدَ تَفْرِيْقِهَا، وتَرْتِيْبِهَا بَعْدَ نَثْرِهَا، كُلُّ ذَلِكَ ضِمْنَ كِتَابٍ جَامِعٍ مُحَرَّرٍ تَحْتَ عِنْوَانِ: «مَعَالِمِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ» في ثَلاثِ مُجَلَّدَاتٍ كِبَارٍ، طَبْعَةُ «دَارِ القَلَمِ» ـ دِمِشْقَ ـ.

نَعَمْ؛ إنَّهُ اسْمٌ على مُسَمًّى، فِكَتَابُ «مَعَالِمِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ» قَدْ جَمَعَ بَيْنَ دَفَّتَيْهِ مَعَانٍ جَمِيْلَةً كَمَا يَلي:

1ـ أنَّ قَوْلَهُ: «مَعَالِم...»: قَدْ جَمْعَ مَعْنَى الأعْلامِ والأُصُولِ والأُسُسِ؛ بحَيْثُ أنَّهَا تَدُلُّ في مَجْمُوعِهَا: على أُصُولِ وأعْلامِ الأحَادِيْثِ الَّتِي تُغْنِي عَنْ غَيْرِهَا في الجُمْلَةِ!

و هَذَا المَعْنَى في حَدِّ ذَاتِهِ يَدُلُّ ـ في مُجْمَلِهِ ـ: على أنَّهُ قَدْ جَمَعَ في كِتَابِهِ هَذَا كُلَّ الأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي مَرَدُّهَا إلى هَذِهِ المَعَالِمِ والأُصُولِ الجَامِعَةِ.

وإنِّي لَا أُبَالِغُ إذَا قُلْتُ: إنَّ كِتَابَ «مَعَالِمِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ» يُعْتَبَرُ: مَتْنًا حَدِيثِيًّا أكْثَرَ مِنْهُ كِتَابًا جَامِعًا للأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ؛ لكَوْنِهِ قَدْ جَمَعَ الأحَادِيْثَ الأُصُولَ الَّتِي تَرْجَعُ إلَيْهَا غَالِبُ الأحَادِيْثِ في الجُمْلَةِ!

وهُوَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أهْلِ الإيْمَانِ: «إنَّ الإسْلَامَ لَيَأْرِزُ إلَى المَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

فحَقِيْقَةُ كِتَابِنَا هَذَا: أنَّ أحَادِيْثَ كُتُبِ السُّنَّةِ تَأْرِزُ إلَيْهِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.

وبهَذَا قَالَ شَيْخُنَا الشَّامِي في أوَّلِ كِتَابِهِ هَذَا: «إلى كُلِّ مُسْلِمٍ ومُسْلِمَةٍ أُهْدِي هَذِهِ «المَعَالِمَ»: قَالَ ﷺ في حَدِيْثِ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السَّلامُ ـ كَمَا عِنْدَ ابنِ مَاجَه ـ: «ذَاكَ جِبْرِيْلُ أتَاكُم يُعَلِّمُكُم مَعَالِمَ دِيْنِكُم».

هَذَا ، وأرْجُو اللهَ تَعَالى ـ كَمَا كَانَ حَدِيْثُ جِبْرِيْلَ بَيَانًا للمَعَالِمِ الكُلِّيَّةِ للدِّيْنِ ـ: أنْ يَكُونَ هَذَا الكِتَابَ بَيَانًا للمَعَالِمِ التَّفْصِيْلِيَّةِ لَهُ» انْتَهَى كَلامُهُ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالى.

وحَقًّا مَا قَالَ، وصِدْقًا مَا أشَارَ إلَيْهِ، ولَا يَعْلَمُ حَقِيْقَةَ هَذَا إلَّا مَنْ قَرَأ جُمْلَةً وَافِرَةً مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، ثُمَّ عَارَضَهَا على كِتَابِ «مَعَالِمِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ»، واللهُ أعْلَمُ ورَدُّ العِلْمِ إلَيْهِ أسْلَمُ!

2ـ أنَّ قَوْلَهُ: «... السُّنَّة النَّبَوِيَّة»: قَدْ جَمَعَ في مَضْمُونِهِ مَعَانِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ كَامِلَةً، فَلَمْ يَقْتَصِرْ على فَنٍّ دُوْنَ آخَرَ، ولَا عِلْمٍ دُوْنَ غَيْرِهِ، كَمَا هُوَ حَالُ كَثِيْرٍ مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ!

وهَذَا المَعْنَى مِنْهُ حَفِظَهُ اللهُ يُشِيْرُ ضَرُوْرَةً إلى أنَّ كِتَابَ «مَعَالِمِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ»: قَدْ جَمَعَ أُصُولَ الأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بالعَقِيْدَةِ والفِقْهِ والتَّفْسِيْرِ والآدَابِ والرَّقَائِقِ والفَضَائِلِ والشَّمَائِلِ والسِّيْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وغَيْرِهَا مِمَّا ثَبَتَ عَنْهُ ﷺ قَوْلًا وفِعْلًا وتَقْرِيْرًا وصِفَةً، وشَيْءٌ هَذَا سَبِيْلُهُ لَا تَجِدُهُ في أكْثَرِ كُتُبِ السُّنَّةِ، واللهُ هُوَ المُوَفِّقُ والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ.

3ـ أنَّ الشَّيْخَ الشَّامِي لَمْ يتَجَاسَرْ على تَسْمِيَةِ كِتَابِهِ بـ«مَعَالِمِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ»: إلَّا وقَدْ خَبَرَ الأحَادِيْثَ النَّبَوِيَّةَ جَمْعًا وتَحْقِيْقًا... ووَطَّنَ نَفْسَهُ على مَعْرِفَةِ أُصُولِهَا وفُرُوعِهَا مَعَ مَعْرِفَةِ مُكَرَّرَاتِهَا ومُعَلَّقَاتِهَا وزَوَائِدِهَا، الأمْرُ الَّذِي فَتَحَ اللهُ لَهُ بِهِ بَابًا مِنْ أبْوَابِ العِلْمِ: وهُوَ عِلْمُ الزَّوَائِدِ، ومَا أدْرَاكَ مَا هُوَ؟!

إنَّهُ عِلْمٌ عَزِيْزٌ صَعْبٌ وُلُوجُهُ، وعَسِرٌ طَرْقُهُ لَا يُحْسِنُهُ إلَّا مَنْ أعَانَهُ اللهُ تَعَالى عَلَىْهِ، مِنْ خِلالِ مَعْرِفَةِ طُرُقِ الأحَادِيْثِ ورِجَالَاتِهَا مَعَ مُعَارَضَتِهَا ومُقَابَلتِهَا حَدِيْثًا حَدِيْثًا وكَلِمَةً كَلِمَةً مَا يَعْرِفُهُ أرْبَابُ الفَنِّ مِنْ أهْلِ العِلْمِ خَاصَّةً!

وشَيْخُنَا صَالِحٌ الشَّامِي: قَدْ مَارَسَ عِلْمَ الزَّوَائِدِ مُمَارَسَةً لَا نَظِيْرَ لَهَا، بَلْ إخَالُهُ قَدْ فَاقَ مَنْ سَبَقَهُ، وحَسْبُكَ بِهَذَا شَهَادَةً: كُتُبُهُ الَّتِي صَنَّفَهَا في «الزَّوَائِدِ»، فَإنَّهَا قَاطِعَةٌ بعُلُوِّ كَعْبِهِ ورُسُوخِ عِلْمِهِ في الحَدِيْثِ وزَوَائِدِهِ، واللهُ يُؤتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، ولَا نُزَكِّيْهِ على اللهِ تَعَالى!

* * *

ž لَطِيْفَةٌ: إنَّ أحَادِيْثَ كِتَابِ «مَعَالِمِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ» قَدْ بَلَغَتْ: (3921) حَدِيْثًا، وهَذَا العَدَدُ اليَسِيْرُ يُذَكِّرُنَا بعَدَدِ أحَادِيْثِ «جَامِعِ التِّرْمِذِي» الَّذِي بَلَغَتْ أحَادِيْثُهُ: (3956) حَدِيْثًا!

فسُبْحَانَ اللهَ الَّذِي قَيَّضَ لهَذِهِ الأُمَّةِ المَرْحُومَةِ الوَلَّادَةِ ـ بَعْدَ ألْفٍ وأرْبَعْمَائَةٍ وأرْبَعِيْنَ سَنَةً ـ: مَنْ يَقُومُ بجَمْعِ كِتَابٍ في السُّنَّةِ يُسَايِرُ مَنْ سَبَقَهُ جَمْعًا ومَوْضُوعًا وتَنْسِيْقًا وتَحْرِيْرًا، فَكَمْ تَرَكَ الأوَّلُ للآخِرِ؛ لكِنَّهُ فَضْلُ اللهُ يُؤتِيْهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ المُخْلِصِيْنَ، ولَا نُزَكِّي على اللهِ أحَدًا!

* * *

ž أمَّا إذَا سَألْتَ أخِي المُسْلِمُ عَنْ طَرِيْقَةِ شَيْخِنَا الشَّامِي في تَصْنِيْفِ «مَعَالِمِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ»، فَهَاكَهَا باخْتِصَارٍ:

أولا: أنَّهُ اقْتَصَرَ على الأحَادِيْثِ الَّتِي جَمَعَتْ كُلَّ أحَادِيْثِ الأحْكَامِ المَوْجُودَةِ في البَابِ.

ثَانِيًا: أنَّهُ اقْتَصَرَ على الأحَادِيْثِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ على المَعَانِي الوَارِدَةِ في البَابِ.

ثَالِثًا: أنَّهُ اقْتَصَرَ على أحَادِيْثِ «كُتُبِ السُّنَّةِ» المُعْتَمَدَةِ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ، وهِيَ الأرْبَعَةَ عَشَرَ المَذْكُورَةُ آنِفًا؛ ابْتِدَاءً بالصَّحِيْحَيْنِ، والسُّنَنِ الأرْبَعِ، ومُرُورُا بالمُسْنَدِ والمُوَطَّإ، وانْتِهَاءً بسُنَنِ الدَّارِمِي، وصَحِيْحَيْ ابنِ خُزَيْمَةَ وابنِ حِبَّانَ، وغَيْرِهِم مِنْ أصْحَابِ السُّنَنِ المُعْتَمَدَةِ.

رَابِعًا: أنَّهُ اعْتَمَدَ في كِتَابِهِ هَذَا على أفْضَلِ الطَّبَعَاتِ العِلْمِيَّةِ لكُتُبِ السُّنَنِ المَذْكُورَةِ آنِفًا.

خَامِسًا: أنَّهُ حَكَمَ على الأحَادِيْثِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ والضَّعْفُ، وهَذَا في حَدِّ ذَاتِهِ عَمَلٌ مَشْكُورٌ وجُهْدٌ مُبَارَكٌ، هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ جَمِيْعَ أحَادِيْثِ كِتَابِ «مَعَالِمِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ» صَحِيْحَةٌ إلَّا نَزْرًا يَسِيْرًا!

يُوَضِّحُهُ الآتِي:

ـ أنَّ أحَادِيْثَ كِتَابِ «مَعَالِمِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ» قَدْ بَلَغَتْ: (3921) حَدِيْثًا.

مِنْهَا: (2131) حَدِيْثًا مَأخُوذَةٌ مِنَ «الصَّحِيْحَيْنِ» ـ البُخَارِي ومُسْلِمٍ ـ، أيْ: أكْثَرُ مِنْ نِصْفِ أحَادِيْثِ الكِتَابِ، وتَعْدُلُ نِسْبَتُهَا: (55%)، وكَفَى بِهَذَا أهَمِيَّةً للكِتَابِ!

والبَاقِي مِنْهَا: (1790) حَدِيْثًا، وكُلُّهَا أيْضًا صَحِيْحَةٌ إلَّا: (33) حَدِيْثًا ضَعِيْفًا، وقَدْ بَيَّنَ ضَعْفَهَا في الكِتَابِ!

وهِيَ مَعَ هَذَا الحُكْمِ إلَّا أنَّ ضَعْفَهَا مُنْجَبِرٌ، كَمَا أنَّهَا جَاءَتْ كُلُّهَا في فَضَائِلِ الأعْمَالِ، الشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهَا مَقْبُولَةً عِنْدَ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ.

وعَلَيْهِ؛ فَإنَّ نِسْبَةَ الصِّحَّةِ في كِتَابِ «مَعَالِمِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ»، قَدْ بَلَغَتْ في الجُمْلَةِ: (99%)، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ.

سَادِسًا: أنَّهُ قَدْ بَيَّنَ مُشْكِلَ الأحَادِيْثِ وغَرِيْبَهَا، مَعَ شَرْحٍ لبَعْضِ ألْفَاظِهَا؛ لَاسِيَّما فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بالعَقِيْدَةِ ونَحْوِهَا.

* * *

ž تَوْصِيَاتٌ:

وأخِيْرًا؛ فَإنِّي أُوْصِي نَفْسِي وعُمُومَ المُسْلِمِيْنَ: بقِرَاءَةِ كِتَابِ «مَعَالِمِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ»، سَوَاءٌ في بُيُوتَاتِهِم أو مَدَارِسِهِم أو جَامِعَاتِهِم، وأخُصُّ مِنْهَا أيْضًا: المَسَاجِدَ ودُوْرَ التَّحْفِيْظِ، كُلُّ ذَلِكَ لأنَّ الكِتَابَ هَذَا مِنْ أهَمِّ كُتُبِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ؛ بَلْ إخَالُهُ: وَاسِطَةَ عِقْدِهَا، ودُرَّةَ جِيْدِهَا، وغُرَّةَ جَبِيْنِهَا، ومَوْئِلَ أحَادِيْثِهَا، فقَدْ جَمَعَ مِنْ أحَادِيْثِ كُتُبِ السُّنَّةِ: عُيُونَهَا، ومِنْ أُصُولِهَا: رُؤوْسَهَا، وقَدْ بَيَّنَ مُشْكِلَهَا وغَرِيْبَهَا، وبَيَّنَ صَحِيْحَهَا مِنْ ضَعِيْفِهَا.

فَهُوَ بحَقٍّ: كِتَابٌ جَامِعٌ نَافِعٌ لأُصُولِ السُّنَّةِ مِمَّا يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ لِمَنْ أرَادَ عُمُومَ أحَادِيْثِ السُّنَّةِ الَّتِي أخْبَرَ عَنْهَا ﷺ في قَوْلِهِ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» أخْرَجَهُ مَالِكٌ!

ـ وكَذَا أُوْصِي نَفْسِي وعُمُومَ مَكْتَبَاتِ المُسْلِمِيْنَ: أنْ يُعَظِّمُوا شَعَائِرَ اللهِ تَعَالى؛ لَاسِيَّما فِيْمَا يَنْشُرُونَ ويَطْبَعُونَ!

فطِبَاعَةُ كُتُبِ الإسْلامِ تَعْتَبَرُ شَعِيْرَةً مِنْ شَعَائِرِ الإسْلامِ، وكَذَا تَعْظِيْمُهَا مِنْ تَعْظِيْمِ حُرُمَاتِ اللهِ تَعَالى، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج: 32].

لِذَا فَإنَّهُ يَنْبَغِي على عُمُومِ أصْحَابِ دُوْرِ النَّشْرِ والطِّبَاعَةِ: أنْ يَجْتَهِدُوا في طِبَاعَةِ كُتُبِ أهْلِ الإسْلامِ ـ لَاسِيَّما الكُتُبُ الحَدِيْثِيَّةُ مِنْهَا ـ، مِنْ خِلالِ حُسْنِ اخْتِيَارِ خَطَّهِا، ونَوْعِ تَجْلِيْدِهَا، وجَوْدَةِ وَرَقِهَا، مَعَ إخْرَاجِهَا في حُلَّةٍ جَمِيْلَةٍ، تَسُرُّ النَّاظِرِيْنَ، وتُعِيْنُ القَارِئ على قِرَائَتِهَا، مَعَ مَا في هَذَا التَّعْظِيْمِ مِنَ القِيَامِ بعُبُودِيَّةِ المُغَالَبَةِ لأهْلِ الغَرْبِ الَّذِيْنَ لَا يَسْتَأخِرُونَ في حُسْنِ طِبَاعَةِ كُتُبِهِم المُحَرَّفَةِ!

وأخِيْرًا، فَإنِّي أُكَرِّرُ شُكْرِي ـ بَعْدَ اللهِ تَعَالى ـ لأصْحَابِ دَارِ القَلَمِ ـ بدِمِشْقَ ـ ذَاتِ الشُّهْرَةِ السَّائِرَةِ، والمَكَانَةِ العَرِيْقَةِ مَا يَعْرِفُهُ الجَمِيْعُ؛ حَيْثُ قَامُوا بطِبَاعَةِ كِتَابِ «مَعَالِمِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ» طِبَاعَةً أنِيْقَةً في ثَلاثِ مُجَلَّدَاتٍ كِبَارٍ، كَمَا أخْرَجُوهُ في حُلَّةٍ جَمِيْلَةٍ، مَا بَيْنَ وَرَقٍ مَتِيْنٍ، وتَجْلِيْدٍ فَاخِرٍ... فَجَزَاهُمُ اللهُ عَنِ العِلْمِ وأهْلِهِ خَيْرًا.

الطَّائفُ المأنوسُ

وسوم: العدد 864