الشدة غير الغلظة ، في قول الحق
إن قول الحق ، وإظهاره للناس ، وتبنيه والصدع به ، والجهر به على الملأ ، ليس أمراً سهلاً على النفس البشرية ..
بل هو صعب جداً ، ومر كمرارة العلقم ، لا يقدر عليه ، إلا ثلة قليلة من المؤمنين ، ومن أولي العزم ، والبأس الشديد .. وذوي مِرة ، وقوة ..
لأن قول الحق ، وخاصة في أزمان علو الباطل وانتفاشه ، وصخبه ، وهيمنته ، وسيطرته على جميع مفاصل الحياة .. له تكاليف ، وتبعات ، وضرائب باهظة ، يجب أن يدفعها ، كل من ينبري لقول الحق ، حيث سيصطدم مع أهل الباطل ، وأعوانه ، وشياطينه الكثر ، الذين يلتفون حوله ، ويدعمونه ، ويؤازرونه ، ويساندونه ..
فالذي يقول الحق ، ولا يخشى في الله لومة لائم .. قد يدفع حياته ثمناً لقوله الحق ، أو يُسجن ويُعذب ، ويُقتل تحت التعذيب !!!
ولذلك اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، من يفعل ذلك ، هو سيد الشهداء ..
( عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ " . صحيح الإسناد ..
ولكن أكثر الناس يؤثرون السلامة والعافية ، وينكصون عن الجهر بالحق ، ويخافون سوء العاقبة في الدنيا ، ولا يأبهون ، ولا يهتمون لسوء العاقبة في الآخرة !!!
فتراهم يخنعون ، ويرضخون للباطل ، بل يتمادى أغلبهم أو كلهم في الهجوم ، والانتقاد اللاذع ، لمن يجهر بالحق ، وينعتونه بالمتزمت ، والمتشدد ، والمتطرف ، والارهابي !!!
لأنهم يريدون ديناً سهلا يسيراً مرناً يتكيف ، ويتشكل كالبلاستيك وفق أهوائهم ، وشهواتهم ، فيبحثون عن الفتاوى التي ترخص لهم القعود ، والخنوع ، والذل ، والهوان للطواغيت ، فيصفون هذا الشكل من الدين بالمعتدل والوسطي ، ويزعمون زوراً وبهتاناً ، أنه هذا هو الدين الذي أنزله الله تعالى !!!
يريدون تمييع الدين ، وتهجينه ، وتدجينه ، وتجريده من قوته ، وحصره في المسجد فقط ، وتفصيله حسب الهوى ، ليكون سهل التطبيق بدون تكاليف ، ولا التزامات تثقل كاهلهم ، ولا مشقات ، ولا يسبب لهم أذى من الطواغيت ، ولا يُغضبهم عليهم !!!
فيعيبون على القائمين على حدود الله ، والجاهرين بالحق ، ويصفونهم بأنهم غلاظ الأكباد ، قساة القلوب ، يُنفرون الناس من الدين ، وأنهم يُلقون بأنفسهم في التهلكة !!!
والحقيقة التي يجهلها هؤلاء القوم .. أنهم لا يفرقون بين الشدة التي تعني : القوة ، والحزم ، والعزم ، والثبات على طريق الحق ، والمضي في المجاهرة به ، دون خوف ولا وجل ..
وبين الغلظة في مخاطبة الناس ، والفظاظة في استخدام الكلمات المهينة ، المسيئة للناس ، والمتضمنة همزاً ولمزاً ، وسخرية من الناس !!!
فالبون شاسع ، بين عرض الحق بكلمات قوية ، وهي بطبيعة الحال شديدة على النفوس الضعيفة ، وثقيلة على القلوب المريضة ، وبين مخاطبة الناس ، بكلمات جارحة ، أو مفردات بذيئة ، قميئة ، مهينة ..
فالقرآن بطبيعته ثقيل على النفوس ، كما أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم !!!
( إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا ) المزمل 5 .
فالغلظة ، والجلافة ، والقساوة في التعامل مع الناس ، مرفوض رفضاً قاطعاً ..
لذلك امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم حينما قال له :
( فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ ) آل عمران 159 .
وكذلك حينما أمر الله تعالى موسى عليه السلام :
( ٱذۡهَبَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ﴿٤٣﴾ فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ ﴿٤٤﴾ طه .
واللين هنا ، لا تعني الضعف ، والتذلل ، والمسكنة لفرعون .. ولا التنازل عن القيم ، والمبادئ العليا للدين ، أو التلاقي في منتصف الطريق بين الحق والباطل ، وبين الكفر والإيمان ، ولا تعني المرونة في تشكيل الدين ، لينسجم ويتوافق مع رغبات الطاغوت !!!
إنه مجرد تلطف ، وتودد ، وتؤدة في عرض الدين الجديد ، بدون أي تغيير في مقوماته ، ولا تمييع ، أو تمطيط لشكله ، وقوامه ، أو مجاملة ، أو مداهنة الطاغوت على حسابه ..
بل عرض كامل ، دون أي نقص ، ولا إخفاء أي حقيقة من حقائقه ، مع قوة ، وثقة في العرض ، وثبات على الهدف الرئيسي للدين .. وهو الدعوة إلى توحيد الله ، وعبادته دون سواه ..
وهذا مجرد الخطوة الأولى في عرض الدين الجديد .. تلحقها خطوات تكون أشد صرامة ، وحزم ، إذا أصر الطاغوت على رفض الدين ، أو لجأ إلى محاربته !!!
فحينئذ سيتبدل الخطاب فوراً ، من اللين ، واللطافة ، إلى الشدة ، والعنف ، مع التهديد بالهلاك ، والتدمير للطاغوت المتجبر ، المتكبر ، المغتر بخيلائه ، وبطشه ، وقوته !!!
وهكذا حينما وصف فرعون موسى عليه السلام :
( فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا ﴿١٠١﴾ الإسراء .
فجاءه الرد الصاعق ، المجلجل ، العنيف دون وجل ، ولا خوف ، ولا تلعثم ، ولا لين كما كان في بداية الدعوة !!!
لأنه وصل هنا إلى مرحلة المفاصلة الحاسمة .
( وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰفِرۡعَوۡنُ مَثۡبُورٗا ) الإسراء 102 .
تهديد ووعيد بالهلاك والبوار لفرعون المغتر بسلطانه !!!
فمخاطبة الناس بالحق ، ودعوتهم إليه ، لا تكون دائماً في مستوى واحد ، أو درجة واحدة ، وإنما تتغير وتتبدل حسب المواقف ، والظروف ..
فقد يتطلب الأمر في وقت ما .. اللين ، واللطف دون ضعف ، وفي وقت آخر يتطلب الشدة ، والعنف ، والقوة دون فظاظة ، ولا غلظة ..
والمعيار في هذا الأمر ، الحكمة ..
( ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ ) النحل 125 .
ويقول سيد قطب رحمه الله تعليقاً على هذه الآية في ظلال القرآن :
( والدعوة بالحكمة , والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم , والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها , والطريقة التي يخاطبهم بها , والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها . فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه .
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق , وتتعمق المشاعر بلطف , لا بالزجر والتأنيب في غير موجب , ولا يفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية . فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة , ويؤلف القلوب النافرة , ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ ) .
وبصورة عامة ، الحكمة تعني وضع الشيء في موضعه ، الذي يستحقه ، سواء كان ليناً ، ورفقاً ، أو قوة ، وشدة ..
بدليل قوله تعالى في الآية التي تليها .. والتي تطلب من المسلمين .. إذا ما تم الاعتداء عليهم .. أن يردوا الاعتداء بمثله ، وليس السكوت ، والخنوع ، والرضوخ للمعتدين ..
( وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ) النحل 126 .
( فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡۚ ) البقرة 194 .
فالمسلم عزيز دائماً ، ولا يرضى الدنية في دينه ، ولا يقبل الضيم ، ولا أن يُعتدى عليه ، ولا أن تنتهك حرماته ..
بل يرد مباشرة على الاعتداء بمثله ، دون إفراط ، ولا تفريط ، ولا ظلم ، ولا تعسف ، ولا بغي .
المصادر :
ظلال القرآن ج14 .. سيد قطب .
وسوم: العدد 864