دكتور زاهر سحلول يكتب لـCNN عن زيارته لإدلب: العالم يحاول تجاهل أكبر الكوارث
هذا المقال بقلم الدكتور زاهر سحلول، طبيب سوري-أمريكي ورئيس منظمة "ميدغلوبال" الإنسانية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
لم أستطع تحمل رؤية صور وفيديوهات النزوح الجماعي من مدن وقرى إدلب إلى الحدود التركية، فقررت السفر من مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أقيم مع عائلتي وأشتغل كطبيب اختصاصي في العناية المشددة، إلى مدينة إدلب مركز أكبر الكوارث التي يشهدها العالم في هذا القرن ويحاول أن يتجاهلها.
أردت أن أقول لضحايا النسيان لأطفال ونساء وأطباء إدلب إننا لم ننساهم وإننا معهم خلال محنتهم، وأردت أن أقول لأطفال سوريا إن لهم حق أن يحلموا بمستقبل آمن وحياة كريمة كأولادي.
خلال العقد الماضي، شاركت في عشرات الحملات الطبية مع مؤسستي "ميدغلوبال" لتقديم العناية الصحية لضحايا الكوارث واللاجئين والنازحين، في اليمن وغزة والعراق وفنزويلا وبورتوريكو وبنغلادش، ولكن ما يحصل في سوريا أسوأ من أي وصف.
حسب تقارير الأمم المتحدة، المنظمة الدولية التي يفترض أن تحمي المدنيين والأطفال وتمنع انتهاكات حقوق الإنسان وتقدم المساعدات في الكوارث، أكثر من 800 ألف إنسان نزح في محافظة إدلب منذ بداية العام الجديد مع اشتداد القصف الجوي من قبل النظام السوري وحليفته روسيا على مدن وقرى إدلب وحلب. 80% من النازحين هم من الأطفال والنساء.
تحولت إدلب، كما كانت حلب والغوطة وحمص قبلها، إلى سجن اعتقال كبير. لا يستطيع أهلها أن يفروا من سندان القصف ومطرقة البرد القارس. منذ أيام توفيت الطفلة إيمان ليالى ذات الـ18 شهرًا تجمدًا من البرد ومن سوء التغذية، في أحد مخيمات النازحين في مدينة عفرين حسب تقرير الطبيب المعالج. خلال زيارتي لإدلب التقيت مع الدكتورة لبنى السعد طبيبة الأطفال، التي نزحت مع زوجها وابنها ذي العامين من مدينة معرة النعمان التي فرغت من كل سكانها بسبب القصف. كمعظم الأطباء والممرضين الذين التقيتهم الدكتورة، لبنى كانت تعاني بصمت من الشدة النفسية بسبب القصف والنزوح وتجاهل القريب. قالت لي إنها تعالج أطفالا مصابين بسوء التغذية الشديدة لأول مرة في حياتها بسبب نقص الحليب والغذاء. منظمة "أنقذوا الأطفال" البريطانية سلطت الضوء في تقرير نشرته مؤخرا بشأن تأثير الأزمة في إدلب على الأطفال. وجاء في التقرير أن القصف الروسي السوري يودي بحياة طفل سوري كل يوم بالمتوسط العام الماضي. بل إن عدد الأطفال الذين قُتلوا في شهر واحد، وتحديدا في يوليو/تموز 2019، تجاوز عددهم عام 2018 بأكمله.
التقيت بالدكتور جلال النجار جراح أعصاب خلال زيارتي للمرضى في مركز العناية المشددة في أكبر مشافي إدلب الحدودية. الدكتور جلال، الذي نزح من حمص، لا يزال مع زملائه الأطباء ويحري عمليات جراحية نوعية رغم القصف وقلة الموارد ورغم استهداف المشافي من قبل النظام السوري والجيش الروسي.
حسب تقرير منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان"، أكثر من 80 مشفى استُهدفت وأُغلقت في إدلب بسبب القصف خلال الشهور الماضية. أكثر من 580 مشفى قصفت في سوريا وأكثر من 914 طبيبا وممرضا قتلوا في سوريا خلال السنوات التسع الماضية، في استهداف ممنهج للكادر الطبي ضد أبسط مبادئ الحيادية الطبية وبروتوكولات جنيف والمبادئ الأخلاقية للحروب والقيم الإنسانية.
قال لي الدكتور جلال إنه يذهب كل يوم إلى المشفى ليقوم بواجبه الإنساني ولا يدري فيم إذا كان سيعود إلى أهله حيا أو ميتا في الكفن. لم ألتق في حياتي المهنية بأبطال كهؤلاء. من واجبنا كأطباء في العالم أن نكون معهم وأن ندافع عما يمثلونه. هم يدافعون عن أغلى ما يمثله الطب.
في إدلب الخضراء، ذات الـ14 مليون شجرة زيتون، 1250 مخيما للنازحين، كثير منها تفتقد للخيام التي توفرها عادة الأمم المتحدة لتقي العائلات النازحة برد الشتاء القارس. لحماية أطفالهم من البرد يلجأ الأهل إلى إحراق ما يتوفر لديهم في المدافئ البدائية، حيث لا غاز ولا مازوت ولا حطب. رأيت أمهات يحرقون أكياس البلاستيك والأحذية القديمة لتوفير بعض الدفء وتنبعث منها رائحة واخزة.
ثلاثة ملايين إنسان نصفهم من النازحين مرغمون على النزوح إلى منطقة تضيق شيئًا فشيئا قرب الحدود التركية. تركيا أغلقت الحدود لأنها لا تستطيع أن تستوعب أكثر من 3.6 مليون لاجئ سوري. أما الدول العربية والإسلامية وما يسمى المجتمع الدولي فقد قررت تجاهل ما يحدث للسوريين وتركهم لمصيرهم. بعد ما يقارب من العشر السنوات لم يعد هناك إرادة دولية لحماية المدنيين في سوريا أو حتى التظاهر بالاهتمام بهم.
حتى الدول العربية والإسلامية التي كانت تدعي اهتمامها بما يجري في سوريا وتتشدق بنجدة الملهوف وبـ"وا معتصماه" وبـ"بلاد العرب أوطاني"، قد أوقفت مساعداتها للمشافي والنساء والأطفال.
ما يجري في سوريا وإدلب بوجه خاص هو وصمة عار في سجل الأمم المتحدة وفشل ذريع لنظامها الجامد الذي عفا عليه الزمن.
في لقائي مع المنظمات السورية المحلية غير الحكومية في مدينة إدلب، التي تعمل على مدار الساعة لتساعد الناس في النزوح وإيجاد المأوى والطعام والدعم النفسي والصحي، كانت الشكوى من تفاقم الوضع الكارثي في ظل بطء غير مفهوم لوكالات الأمم المتحدة. الدكتورة لبنى تكلمت باسم العاملين الإنسانيين في مؤتمر صحفي أقمناه في مخيم للاجئين عن الأوضاع الإنسانية ودعت الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى زيارة كما زار مناطق الكوارث الأخرى في العالم. استجابة غوتيريش ومنظمته للوضع "المأساوي" بسوريا مخيبة للآمال وإعرابه عن "القلق العميق" في مكتبه الدافئ في نيويورك ليس كافيا.
يمكن للمجتمع الدولي إذا كان جادًا وللرئيس الأمريكي دونالد ترامب إذا أراد أن يفعل ما لم يفعل سابقه الرئيس باراك أوباما، الذي سمح بتجاوز كل خطوطه الحمراء، أن يجعل سوريا أولوية وأن يدفع بكل الطرق الدبلوماسية وغيرها باتجاه إنهاء الكارثة التي غيرت وجه العالم حسب قرار مجلس الأمن 2254 الذي يضع خارطة لطريق انتقال سياسي يضمن محاسبة مرتكبي جرائم الحرب وعودة السلم الأهلي وعودة اللاجئين وإعادة الإعمار.
سألت أطفال أحد مخيمات النازحين في إدلب الذين تحلقوا حول نار المخيم ليدفئوا أيديهم الصغيرة ويغنوا "بلاد العرب أوطاني"، سألتهم من منهم بحب أن يكون طبيبًا عندما يكبر؟ معظمهم رفعوا أيديهم وهم يبتسمون ويضحكون ومنهم أسماء ذات الـ12 عاما التي نزحت مع أهلها 7 مرات من قرية جبين في شمال حماه وما زالت تمشي كل صباح إلى مدرستها ساعتين رغم الطين والبرد لأنها تحلم بمستقبل زاهر لا قصف فيه ولا برد ولا خيام.
وسوم: العدد 865