الأوبئة والكوارث بين التفسير العلمي والنظرة الإيمانية
المسلم صاحب عقلانية إيمانية، ليس درويشا تسيّره الخرافة وليس ماديا ملحدا يتغافل عن قضاء الله تعالى وقدره.
هذا الكون خلقه الله وجعله يسير وفق سنن ثابتة (قوانين الطبيعة)، لا تتبدل ولا تتغيّر، وبالتالي يستطيع الناس معرفتها بالدراسة والملاحظة والتجربة، واقتضت الحكمة الإلهية أن تكون الحياة في كوكب الأرض عرضة لمنغصات تصيب الطبيعة من حين لآخر فتصيب الأحياء بشيء من المكاره، هناك الزلازل والفيضانات والبراكين والأوبئة، وهي تشبه ما يعتري الأفراد من أمراض، هذه الكوارث الطبيعية يعرف العلماء المختصون أسبابها وحركتها، ويحاولون بناء على ذلك التنبؤ بها والوقاية منها وحسن التصرف معها إذا وقعت، هناك إذًا تفسير علمي لكلّ ظاهرة طبيعية يتفق حوله البشر جميعا ولا مجال للتشكيك فيه أو إنكاره بمستند ديني، هو علم دقيق أو قريب من الدقيق يتخصص فيه علماء الجيولوجيا والبحار والبيولوجيا وغيرها من العلوم...هذه هي الرؤية العلمية التي تفسر الظاهرة، لكنها عاجزة عن التحكم فيها لأنها عاجزة عن تفسير الخَلق والتحكم في السنن (العلماء وحتى العامة يعرفون العناصر المكوّنة للماء ويعرفون دورة المطر من بخار إلى ماء منهمر لكنهم عاجزون عن إسقاط المطر)...هنا يكمن الفرق: كل الناس مع التفسير العلمي، الكوارث لا تصيب العصاة وحدهم، تنزل دوريا في جميع القارات وعلى جميع البشر، حتى بعض الصحابة رضي الله عنهم ماتوا بالوباء، لكن يكمن الإخلاف في مستوى آخر هو النظرة الإيمانية التي تتجاوز العلم المادي دون أن تنكره أو تقلل من قيمته.
لاحظوا قول الله تعالى "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل؟"...لم يقل"ألم تر إلى الظل"...الآية تنقلنا من الظاهرة الطبيعة إلى الله تعالى الذي خلقها ويسيّرها وفق السنن التي وضعها هو...من الأكوان إلى المكوّن كما يقول ابن عطاء، إذًا المؤمن لا يستغرق في الظاهرة الطبيعية – كورونا مثلا – ولكن يرتفع بإيمانه إلى الله الذي يشفي ويكشف الضرّ ويرفع البلاء...المؤمن يأخذ بأسباب الوقاية، يعالج، إذا عاش عاش مطمئنا إلى قدر الله وإذا مات مات راضيا لأن "من لم يمت بالسيف مات بغيره"...النظرة الإيمانية هي دفع قدر الله بقدر الله.
وانظروا مرة أخرى إلى قصة نوح مع ابنه فهي تفي بالغرض: كانا أمام الطوفان، وتعاملا معه تعاملا مختلفا، الإبن رأى أنه مجرد ظاهرة طبيعية يعرف كيف ينجو منها: "سآوي إلى جبل يعصمني من الماء"، أما نوح فكانت رؤيته إيمانية- أي تجاوز التفسير العلمي إلى الحقيقة الكبرى وهي "أمر الله" -، قال "لا عاصم اليوم من أمر الله"...ما الفرق بين الأمريْن؟ النظرة المادية التي يتوقف عندها التفسير العلمي لا تتجاوز الظاهرة، أما النظرة الإيمانية فتجعل الإنسان ينتبه إلى إمكانية تحوّل الظاهرة إلى عقوبة دنيوية معجلة، اقرؤوا الآية الكريمة: "فكلا أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا، وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون".
"فكلا أخذنا بذنبه"، أي هذه عقوبة عجلها الله لهؤلاء الأقوام، فحوّل الظواهر الطبيعية إلى جنود و أدوات ابتلاء وسحق...حدث هذا في الماضي وقد يحدث في أي زمان، وإذا كان الكفار لا يبالون بهذا فإن المؤمنين يجعلون منه فرصة للضراعة والتوبة وتجديد الصلة بالله فرديا وجماعيا، "فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا"...وقد تكون الظاهرة الطبيعية ليست عقوبة ولكنها محنة تنبه الغافلين والمذنبين و تفتح أبواب التوبة من المعاصي، وقد تكون درسا لمن طغى ليعرف حجمه الحقيقي وأنه عبد ضعيف هزيل فانِ... على كل حال إنها فرصة للتصالح مع المصحف وكتب السنة والعلوم الشرعية والإقبال على الله بالصلاة والصيام والدعاء وفعل الخير...اغتنموا الخلوة لهذا الغرض.
العلم يبحث عن حلّ للوباء، وقبل كل شيء وبعده "حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه"...ليس كورونا أول وباء يصيب البشرية، سنتعافى منه إن شاء الله، ويا ليت الذي يجد له علاجا يكون واحد من المسلمين، أرأيتم كيف ظهرت أهمية العلماء واختفى أصحاب الغناء والتمثيل واللعب؟
بدل الهلع والتوتّر الشديد يجب أن نأخذ بأسباب الوقاية ونعمد إلى نشر الطمأنينة والثقة بالله لمواجهة الخوف والقلق: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، هو مولانا"...هكذا نجمع في تناغم تام بين التفسير العلمي- نفهم الظاهرة، الوقاية، البحث عن علاج - والنظرة الإيمانية... إذا لم يظهر إيمانُنا في هذه الظروف متى يظهر؟
ونختم بالتوجيه النبوي الكريم:" أمسك عليك لسانك: (لا للإشاعات)، وليسعك بيتك (البقاء في المنزل) وابْكِ على خطيئتك (التوبة والتضرع).
أخيرا...هل سيبقى العلمانيون "المسلمون" يسخرون من مثل هذا الكلام؟
وسوم: العدد 868