الثورة السورية تستقبل عامها العاشر
قرأت في كتاب "مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي" للدكتور عبد الكريم بكار عن سنة تاريخية ماضية مفادها:
"أنّ المحن الكبرى تفرّق ولا تجمع، فالمحن في بداياتها تجمّع الناس وتوحّدهم، ولكنها بعد طول الأمد تؤدي إلى الفرقة والتشرذم...ويصبح كل إنسان يقول: اللهم نفسي نفسي".
والذي ينظر في مآلات الثورات العربية عمومًا والثورة السورية خصوصًا، يتأكد من صدق هذا القول!!!
ففي البداية صدح الشعب السوري بصوت واحد: ((واحد واحد واحد، الشعب السور واحد))، فضلًا عن عبارت التضامن بين المحافظات الثائرة؛ ((يا درعا نحنا معاكي للموت، ويا حمص ...)).
ثم شاهدنا بعد سنوات قليلة كيف تفرّق الثوار واختلفت الرايات وتصادمت الشعارات؟! وشاهدنا كذلك كيف تشتعل الحرب على جبهة من الجبهات القتالية حتى تسقط بيد النظام المجرم، وباقي الجبهات ساكنة نائمة؟!!!
فهل ستظلّ هذه الفرقة سيدة الموقف؟ وهل ماتت الثورة؟ وهل انتصر النظام المجرم؟
لقد انتصر النظام المجرم على العناصر الشائخة، والكيانات الرخوة، والصور الممسوخة المشوّهة عند الثائرين، انتصر ما عنده من نظام، على ما عندنا من فوضى، لقد انتصر انتصارًا صوريًا وهميٍا خادعٍا، انتصر من يقف خلفه ويحارب عنه بالوكالة، على من خذلنا وتخلى عنا...
لقد انتصر نصرًا آنيًا مرحليًا، لكن النهايات يحتكرها الثائرون الماضون في طريقهم المبارك الميمون. وما هذه النكبات التي أصابت ثورتنا إلا بمثابة منبهات حضارية، تستفزّ الثوار وتدفعهم دفعا قويًا لتجديد الهمّة، وتصحيح المسار، واستئناف المشوار...
فالتحديات الصعبة، والأزمات الكبرى، هي التي توقظ الأمم من سباتها.
لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الثائرين المظلومين يتمّ عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة. فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كلّ الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر؛ وهي تدفع وتدافع، وهي تستجمع كلّ قوتها لتواجه القوّة المهاجمة، عندئذ تتحفّز كلّ خليّة بكلّ ما أودع فيها من استعداد لتؤدّي دورها؛ ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة؛ ولتؤتي أقصى ما تملكه، وتبذل آخر ما تنطوي عليه؛ وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال. والأمة التي تقوم على الحق ّوتحميه وتقاوم الظلم والطغيان هي في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها، واحتشاد كلّ قواها، وتوفّر كل استعدادها، وتجمّع كل طاقاتها، كي يتمّ نموّها، ويكمل نضجها، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها.
والذي يقرأ تاريخ أمتنا التليد يجد أنّ التحولات الحضارية الكبرى غالبًا ما كانت تأتي بعد النكبات الخارجية أوالقلاقل الداخلية، ابتداء من حروب الردّة، مرورًا بالفتنة الكبرى، ومن ثم الإعصار المغولي، والغزو الصليبي، والاستعمار الحديث، وصولًا إلى ثورات الربيع العربي؛ فقد كان لكل فتنة دورها في إيقاظ الوعي، فهذه الفتن والتحديات تستفزّ الناس لكي يجدّدوا العزيمة، ويشحذوا الهمّة نحو استئناف الفاعلية الحضارية...
فحروب الردّة، كانت وراء تنبيه الأمة إلى جمع القرآن، والفتنة الكبرى بين الصحابة الكرام، كانت وراء تنبيه الأمة على جمع الحديث الشريف ووضع منهج دقيق لتوثيق النص النبوي ومعرفة الصحيح من الضعيف، والإعصار المغولي الذي دمّر الأمة وأغرق مكتباتها حتى تغير لون الماء في محاولة لاجتثاث أصولها المعرفية، فتأثر بمعارفها وعلومها بدل أن يؤثر، لأن حضارة المغلوب كانت في ذلك الحين أقوى من حضارة الغالب. والغزوات الصلبية على قساوتها وضراوتها ساهمت في توحيد الأمة بعدما كانت متفرقة ومتناحرة، والاستعمار الحديث بكل شروره وآثاره المدمّرة أثمر الصحوة الإسلامية، وثورات الربيع العربي رغم المحاولات الحثيثة لاحتوائها والالتفاف عليها وتقويضها، أسهمت في القضاء على ثقافة القابلية للاستعمار، والقابلية للطغيان، وولّدت لدى الناس توقًا إلى الحرية وشغفا بها ...
وهذا التحول الكبير في الأنفس والأفكار ما هو إلا مقدّمةً صحيحة للتحولات الكبيرة في أرض الواقع... ذلك أن اللحظة الفارقة بين عهد الخنوع والجمود والفوضى وعهد التنظيم والتركيب والتوجيه والحرية، تهلّ حينما يصل التاريخ إلى هذا المنعطف من دورته الحضارية، فإنه يصل إلى نهاية عهد، وبداية عهد جديد، يتجاوز الماضي، بعد تصفيته من العناصر الجامدة والمتناقضات المُقعدة والأفكار القاتلة أوالمكبّلة، وذلك بامتلاكه ثقافة مختلفة تتيح للأنفس استقرارها وانسجامها مع القيم الجديدة؛ قيم التحرّر والنهوض والانعتاق من أسر الأوهام وطغيان الحكام ...
وبذلك يكون المجتمع قد استعاد وعيه وقوّته وفاعليته وتوازنه... وبالتالي يصبح مهيأ للقيام بدوره المنشود في تكريم الإنسان وعمران الأوطان بعد تحريرها من رجز الطغيان... وما ذلك على الله بعزيز.
وسوم: العدد 869