شكرا كورونا
“شكرًا أيها الأعداء”، عنوان كتابٍ للداعية سلمان العودة المُغيَّب خلف قضبان سجون البطش والظلم، يُقدم فيه خلاصة تجربته الحياتية، ويبذل الشكر إلى الذين وضعوا أنفسهم في مقام الأعداء، لأنهم أفادوه بشكل غير مباشر في غير منحى.
فقد يفتح العدو أعيننا على ما كنا إزاءه كالعميان، ويغرف لنا من قاع بحر عيوبنا، ويجردنا من دروعنا الواهية، وبعد أن نتَّزن عقب الصدمة، نقول له في غير وداد: شكرا.
ومن هذا المنطق نقول لفيروس كورونا، الذي يُمثل منعطفا مهما في تاريخ البشرية: شكرًا..
شكرًا كورونا، لأنك كشفت ضعف البشرية التي ظنت أنها ستخرق الأرض أو تبلغ الجبال طولًا، ارتادت الفضاء، ودخلت في ما بينها سباقا محمومًا في التسليح النووي، وظن أساطينها أنهم مانعتُهم حصونهم، فأتاهم ما لم يكونوا يحتسبون.
كان لابد لهذه البشرية من الزلزلة، من الرجفة، حتى يعلم الناس أنهم مهما أوتوا من قوة فهم في ضعف، خلقوا من ضعف، يداهمهم الضعف، ينتهون إلى ضعف، لقد حرم كورونا الملوك والرؤساء، شعور السلطة المطلقة، واستلب منهم تلك المسحة التي بقيت من ميراث الأمم الطاغية إذ قالوا: من أشد منا قوة؟
الجميع في خوف، رؤساء يخضعون لإجراءات الحماية، وقادة أعظم جيوش الأرض وُضعوا في عزل صحي، وزعماء الاستعمار الجديد يدعون للصلاة لمواجهة الأزمة.
البشرية التي تمردت بفعل طغيان المادة، يتحكم فيها اليوم كائن بلغ من الصغر بحيث لا تراه أعينهم، يأمرهم بإغلاق الحدود فيستجيبون، يأمرهم بعزل المدن فيستجيبون، يأمرهم بحظر التجوال فيستجيبون، يأمرهم بالتخلي عن منتدياتهم وتجمعاتهم فيستجيبون، قهرهم في رغباتهم، وبدّل أحوالهم وعوائدهم، فالمقاهي والأندية والمنتديات والسينمات والمسارح صارت ممنوعة، والسياحة أغلقت أبوابها، ومجالس العائلات أصبحت مظنّة الهلاك، فلمن الملك اليوم؟
شكرًا كورونا، لأنك علمت البشرية معنى انتظار الموت. مدن صارت كأن سكانها الأشباح، وألسنة تلهج بالدعوات من أجل البقاء، وحديث عن الموت بلا انقطاع، ووصايا الآباء والأمهات للأبناء عن الغد موصولة، وكأن الناس لم يعرفوا شيئًا عن الموت قط، وكأنهم لم يُشيعوا الجنائز، أو يُودِعوا أجساد أحبابهم الثرى من قبل. ذاقت البشرية معنى انتظار الموت، تمامًا كما ينتظره ساكنو بلاد الدمار الذين يتناولون طعامهم على صوت أزيز الطائرات، وتغلبهم أعينهم على وقع طلقات المدافع، فاليوم يشيع الأب، واليوم الذي يليه يشيع الابن، فيومٌ لقريب، ويومٌ لحبيب، ويومٌ لصديق، فهل شعرنا بهم الآن؟ شكرًا كورونا لأنه أذاق الجميع مرارة الحصار، العائلة محاصرة في بيتها طوعًا أو كرهًا، المدن محاصرة لتبقى أعين أبنائها تجول في الأنحاء، وكأن العالم قد اختُزِل في هذه القرية أو تلك المدينة، الدول عزلت نفسها خوفًا وهلعًا، الحصار ضُرِب على الجميع.
“غزة أكثر الأماكن أمانًا في العالم” عنوان مقال أوردته صحيفة “اللوموند” الفرنسية في التاسع من مارس/آذار الجاري، بسبب الحجر الصحي المفروض عليها على مدى 13 عامًا، هي عمر الحصار الجائر الذي ضربته حولها حكومة الاحتلال، بمساعدة عملائها من حكام العرب، فينطبق على هذا القطاع تلك الآية الكريمة “وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم”، فها هي غزة إلى ساعة كتابة هذه السطور خالية من كورونا، بينما الشعب الذي احتلها يعيش في حالة من الهلع، بعد أن داهمهم الفيروس، فحُق للمحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” العبرية “عاموس هرئيل” أن يبدي دهشته وخيبة أمله قائلا: “عالم غريب، أصبحت غزة حاليا أكثر الأماكن أمنا بين النهر والبحر”. شكرًا كورونا، لأنك فتحت آفاق المعرفة للجماهير، فعلموا الكثير عما كانوا يجهلونه من أمور دينهم، عرفوا أن الإسلام أنشأ نظام الحجر الصحي قبل أكثر من 14 قرنًا من الزمان، ليسبق علوم العصر في ذلك المضمار، وتعلّموا أحكام القنوت في النوازل، وأن النظافة في دينهم المتمثلة في الوضوء المتكرر، وقاية لهم من الأمراض، وهو ما يوافق توصيات الطب اليوم في هذه الأزمة، وعاينوا فسحة دينهم الذي يبيح لهم ترك الجُمع والجماعات، حفاظا على النفس البشرية، الذي يأتي على رأس مقاصد الشريعة.
كما فتح الفيروس أمامهم آفاق المعارف الطبية والصحية، فكثر البحث عن سبل الوقاية من انتقال العدوى، والمعرفة بالأدوية واستخداماتها، والاستماع إلى الأطباء والباحثين.
وإلى جانب هذا معرفة أخرى بمتاهات السياسيين ولعبة السياسة القذرة، فخاضت الجماهير في شأن الحرب البيولوجية، وتناقلوا ما ذهب إليه بعض المحللين من أن الفيروس نتاج صراعات دول كبرى لتغيير خريطة العالم، وتحدثوا عن الصراعات السياسية في بعض الدول الأوروبية، التي تسببت في التهاون بشأن التعامل مع الأزمة، ما أدى إلى أن تصبح أوروبا بؤرة لهذه الكارثة بعدما توقفت عجلتها في الصين. شكرًا كورونا لأنك أعدت الأمور إلى نصابها ليأخذ كل ذي حق حقه، أين رموز الترفيه من أهل الفن والرياضة، الذين استولوا على اهتمامات الناس، وكانوا أحاديث المجالس، ومبلغ علم الصغير والكبير، وبلغت شهرتهم الآفاق، وحازوا بالأفلام والكليبات والمباريات من الأموال ما أصاب الجماهير الكادحة بالإحباط، ها هم قد خمل ذكرهم، وخف بريقهم، وتعلقت أحلام الناس وآمالهم بالأطباء والعلماء والباحثين، الذين حصلوا على الفتات، وجَهْل الناس بهم وتهميشهم، رغم أنهم هُم الأولى برغد العيش وذيوع الصيت والتنصيب كقدوات للشعوب. شكرًا كورونا، لأنك عنونت للصورة بـ”الحب في زمن الكورونا”، حيث عاد للناس معنى العلاقات الأسرية والعائلية، فالتَفّت القلوب الشاردة، وأقبلت تلتمس الدفء في أجواء صقيع الخوف، فتفجرت ينابيع الحب من بعد طول غفلة وصد، وعاد شيء من روح التكافل والتضامن، التي تاهت وسط زحام المادة وإعلاء الأنا.
شكرًا كورونا، لأنك جمعت العالم على هدنة لالتقاط الأنفاس من الصراعات والتصعيد المستمر، جمعت البشرية لأول مرة على مواجهة عدو واحد، هو أخطر من راجمات الصواريخ وقاذفات القنابل والبراميل المُتفجرة. شكرًا كورونا، لأنك أظهرت معادن الناس، فبان من يعضّ على القيم بالنواجذ، وظهر من كان يخفي وراء القناع، ثلة من الكوارث الخُلقية من الجشع والأنانية والدونية. من أجل ذلك، ولأكثر من ذلك، نقول: شكرًا كورونا.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 869