في ذكرى الإسراء والمعراج
[ باختصار من كتاب "لله ثم للتاريخ" للمستشار عبد الله العقيل ]
تطل علينا هذه الأيام ذكرى الإسراء والمعراج التي خلّد الله ذكرها في القرآن الكريم، وكانت تشريفاً وتكريماً لنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، وطمأنةً لقلبه، وكانت ومضات نورانية على طريق الحق، تثبّت المؤمنين، وتميز الكاذبين من الصادقين، وتنبّه أمة الإسلام إلى دورها في قيادة البشرية.
لماذا الإسراء والمعراج؟
ورحلة الإسراء والمعراج حدثٌ فوق مستوى القدرة البشرية، وفوق مستوى إدراك العقل البشري، لذلك تباينت ردود الأفعال حوله، فعندما سمع الناس خبر تلك المعجزة انقسموا إلى فرق شتى، فمنهم مَن أنكرها، ومنهم مَن سخر من رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزأ به، وذهبوا إلى أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟!.
قال: أوَ قال ذلك؟
قالوا: نعم.
قال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق.
قالوا: أوَ تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟!.
قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غَدوة أو رَوْحة.
ثم توجه أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يخبر قريشاً بما رآه، وكلما سمع منه شيئاً قال: صدقت. فقال صلى الله عليه وسلم: "بل أنت الصّدّيق يا أبا بكر".
ومن مقاصد هذه الرحلة المباركة:
- أن الله تعالى أراد أن يتيح لرسوله صلى الله عليه وسلم فرصة الاطلاع على المظاهر الكبرى لقدرته، حتى يملأ قلبه ثقةً به واستناداً إليه، ليزداد قوة في مهاجمة الكفر والضلال. قال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، لنُريَهُ مِن آياتنا. إنه هو السميع البصير). {سورة الإسراء: 1}.
- إعلان أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نبيّ القبلتين، وإمام المشرقين والمغربين، ووارث الأنبياء قبله، وإمام الأجيال بعده، حيث التقت مكة بالقدس، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى، وصلّى بالأنبياء خلفه، فكان هذا إيذاناً بعموم رسالته وخلود إمامته وإنسانية شريعته، وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
- تحديد مكانة أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي بُعِث فيها وآمنت به، وبيان رسالتها ودورها في قيادة البشرية التي اتضحت من إمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنبياء في الصلاة. قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيداً). {سورة البقرة: 143}. فمكانة هذه الأمة منوطة بتحكيم شريعته والجهاد في سبيلها.
- التخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسرية عنه، حيث جاءت رحلة الإسراء والمعراج بعد أن نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ النيل، وتطاولت عليه، خاصةً بعد وفاة عمّه أبي طالب الذي كان يدافع عنه، وزوجه خديجة رضي الله عنها التي كانت تواسيه، وبعد أن آذاه أهل الطائف، وأغرَوا به سفهاءهم وصبيانهم.
- اختبار صدق المؤمنين وثبات عقيدتهم، وتمحيص يقينهم، وتخليص الصف من المترددين وضعاف الإيمان، فالمؤمن الصادق صاحب العقيدة الثابتة واليقين الراسخ يؤمن بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نفحات من الإسراء والمعراج:
ومن العبر والعظات التي يمكن أن نستخلصها من رحلة الإسراء والمعراج:
- طلاقة القدرة الإلهية: فقد أسرى الله عز وجل بعبده إلى المسجد الأقصى، ومنه عرج به إلى سدرة المنتهى، ثم رجع إلى مكة، وكل ذلك في بعض ليلة واحدة.
- سنّة التداول: حيث كانت هذه الرحلة إيذاناً بتحوّل القيادة من بني إسرائيل إلى أمة الإسلام التي تسلّم رسولُها محمد صلى الله عليه وسلم الرايةَ بإمامته للأنبياء جميعاً في المسجد الأقصى.
- العبودية أعلى مقام للبشر: فقد وصف الله تعالى نبيّه قائلاً: (بعبده). فالعبودية لله أسمى مكانة ينالها الإنسان، وبها يتحرر الإنسان من كل ما عداه.
- معيّة الله ولطفه بعباده: فلا يصيبهم ضيق إلا ويتبعه فرج، ولا عسر إلا ومعه يسر. قال الله تعالى: (فإنّ مع العُسرِ يُسراً. إنّ مع العُسرِ يُسراً). {سورة الشرح: 5، 6}.
- وحدة الأنبياء في دعوتهم: فكلهم جاؤوا بدين واحد هو دين الإسلام والتوحيد الخالص لله تعالى.
- ضرورة تنقية المجتمع مما قد يظهر فيه من أمراض اجتماعية: ليكون مجتمعاً قوياً متماسكاً نظيفاً، تسوده المحبة والإخاء.
- مكانة المسجد الأقصى وأهميته للمسلمين: فهو أولى القبلتين، وثاني المسجدين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء، فيجب عليهم نصرته والدفاع عنه.
وسوم: العدد 869