ذوق فقهي راق : غسل اليدين إلى الرسغين ... وأنزلنا من السماء ماء طهورا
لم أدرك عصر الوضوء من غير الحنفية . ولكن أدركت بعضه عندما كنا نتوضأ في السبرات ، الغدوات الباردة ، ونضطر إلى تسخين الماء ثم استعماله من إناء .
وفي صغرنا كنا نحفظ من مكروهات الوضوء التي تعلمناها في الصف الثاني الابتدائي : استعانة المتوضئ بغيره من غير عذر . ونفهمها على أن المكروه أن يصب أحدنا الماء على يد الآخر للوضوء . وتبينا بعد أن المكروه غير هذا .
والوضوء من إناء كان هو الأصل في حياة الناس حتى عهد قريب . فواجه الفقهاء في هذا الواقع الفقهي والاجتماعي مشكلتين إحداهما متعلقة بالنظافة ، والأخرى بالفقه .
المشكلة الأولى أن الإنسان حين يقدم على الوضوء ، وهو قادم من فضاء عام وقد علق بيديه ما يعلق بالأيدي عادة ، ووقالكم الله من شر العوالق ، فربما كان ناهضا من نوم وهو لا يدري أين باتت يده كما في الحديث ، أو ربما يكون قادما من خلاء ولم يحكم أمر طهارته ، كل أولئك يتسبب ، إذا غمس الرجل يديه بالإناء مباشرة ، بإلحاق الأذى بماء هذا الإناء .
أولا من حيث النظافة
ولذلك كان فقد علمونا ونحن صغار أن أول سنن الوضوء العملية : غسل اليدين إلى الرسغين ، نسكب الماء عليهما ، قبل الشروع بالمضمضمة والاستنشاق وبقية الفروض والسنن .
أتذكر اليوم غسل اليدين إلى الرسغين وأنا أتابع نفسي كلما حككت رأسي أشمر وأعيد غسل اليدين إلى الرسغين كما كنت أفعل وأنا طفل صغير .. لعلي لا أحتاج إلى شرح المقصود بالرسغين .
ثانيا من حيث الطهارة الحكمية
الملحظ الذوقي الثاني الذي لحظه الفقهاء رحمهم الله ، أن الإنسان حين يقبل على وعاء غالبا ما يكون ماؤه قليلا بالمصطلح الفقهي ، وقصده أن يزيل أحد الحدثين الأصغر بالوضوء ، أو الأكبر بالغسل ، ويغمس يده المحدثة في الإناء يصبح الماء مستعملا ، وينتقل حكمه من ماء طَهور إلى ماء طاهر . ولا يصح إزالة الحدث إلا بماء طَهور غير مستعمل . وإزاء هذا فقد كان للفقهاء من هذا الأمر مخرجان الأول أن الإنسان يبذل جهدا ليجد طريقة يغسل بها يده التي يريد أن يغمسها بالإناء فيزيل الحدث عنها . أو أنه حين لا يجد ويضطر أن يغمس يده في الماء لأول مرة ، لا ينوي بتلك الغمسة التطهر بل ينوي ما سماه الفقهاء " الاغتراف " . فيغترف ويبقى الماء على حكمه ، ثم يغسل يده خارج الإناء مما اغترف ، ثم يباشر الغسل أو الوضوء .
هذا النوع من الفقه أصبح ثقافة عصر مضى ، وكان فقه المياه مما أخذ كثيرا من أوقاتنا ونحن فتيان وصغار . نتعاهد على قراءة كتاب فقه فنمضي في باب أو بابين ، ثم ننقطع ، ثم نعود وأحيانا ، إلى كتاب آخر كل حسب مذهبه . حتى صرت منذ عقود أنصح الشباب : اقرؤوا كتب الفقه من آخرها . واليوم أقول اقرؤوا بطريقة انتقائية كلّ حسب ما يهمه حسب عمره وعمله .
وأعود إلى ما نحن فيه للحديث عن عظمة هذا الدين . وهذه الشريعة ؛ فأي تشريع هذا الذي يلزم الإنسان أن يتوضأ لإزالة كل حدث ، وربما نحتاج إلى دراسات علمية أرقى لنعرف العلاقة بين نواقض الوضوء وضرورة الغسل وكم أقرأ لمن ثكلتهم أمهاتهم يتمنطقون ..
وأختم بقوله تعالى ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا ) فالطهور بفتح الطاء غير الطاهر . الطَهور كما نسميه بلغتنا الشرعية : الطاهر المطهر . النظيف المنظف . لا تتوضأ بالحليب ولا بالعصير ، ولا بما غلب على الماء فغير وصفه .. ورغم كل المنظفات والمركبات بقي الماء الطهور سيد الموقف .. ينصحك بالتطهر به كل الأطباء حول العالم فسبحان من له الخلق والأمر .
اللهم ارفع البلاء والوباء عن أهل الأرض أجمعين
وسوم: العدد 869