الإدامة مروّة ..
قطوف وتأملات
أدب وسياسة ..
ومن تابع ما يجري في الأسواق الاستهلاكية في كل دول العالم ، يدرك أنني أكتب في صميم السياسة . السياسة التي تعني في بعض أبعادها ترويض الأخلاق الإنسانية حتى تتناسق مع يفاع ( أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) الذي خلقها الله فيه .
وعبارة " الإدامة مروة " عبارة من اللغة الدارجة في مجتمعنا ، والتي كانت تتردد كثيرا على ألسنة الكبار ، يوم يتحلقون على المائدة مع الأطفال تأديبا وتهذيبا .
في تقاليد المائدة التي تحلقنا حولها ونحن صغار ، كانت توضع القصعة وسط المائدة ، بما فيها من طعام ، يسمى عادة " الإدام " . وكان الإدام غالبا ما يكون محدودا في ذلك الزمان، والخبز هو المادة الأساسية التي يجب أن تملأ المعدة . لم يكن الناس يفكرون بتأثير ذلك على الرشاقة أو السمنة ، فما يبذلونه من جهد يكفي لحرق ما يدخل. وخمسة بيضات مقليات مع عشر بصلات ، يمكن أن يكونوا أدمة عشاء لأسرة من سبعة أفراد . وليس على طريقة : آكل الأصفر وأرغب عن الأبيض !!
وكلمة مروّه ، هي كلمة مخففة من كلمة مروءة العربية . ليتضح لكم معنى المثل أن ضبط الإيقاع بين الخبز والإدام المحدود ، والذي يجب أن يكفي الجميع ؛ هو نوع من المروءة . وكرم الأخلاق ، وعزة النفس ، والترفع ، ولاسيما حين يكون الإناء "شركة" وغالبا ما يكون إناء الكريم شركة ، فالكريم لا يأكل في العادة وحده ، ولعلكم تذكرون ، قول الشاعر العربي يرد على السمين اللحيم الذي عيره بالشحوب والنحول فقال :
وإني امرؤ عافي إنائي شركةٌ ... وأنت امرؤ عافي إنائك واحدُ
أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى ..بوجهي نحول الحق والحق جاهد
وحضرت موائد قوم كرام كانوا إذا أكلوا ضيوفا ، أشموا خبزهم من حافة الإناء إشماما ، وكأنهم يأتدمون ..!!
ذكرني بكل هذه المكارم ، ونحن الذين حفظنا من دعاء نبينا : "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت" ، ما لاحظته في أسواق العالم أجمع من هجمة غير معقولة ولا مسوغة على كل شيء ، حتى غدا الناس كأنهم جراد منتشر ، يقرضون ويقضمون كل شيء .
إنسان يدخل إلى متجر كبير فيفرغ كل ما على أرففه من خبز أو بيض أو حليب دون أن يخطر له لحظة أن يفكر بمن ورائه من الناس ..!!
ظاهرة لوحظت في كل بلاد العالم ، تنبي عن ضعف الإنسان ، وهلعه ، مما يصدق فيه قول خالقه : ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ؛ إِلاَّ الْمُصَلِّينَ ) فماذا نفعل إذا تفشت الظاهرة حتى إلى بعض المصلين ؟!
تجلس على مائدة أحدهم في موسم الرخاء فيغرق المئين من الناس باللحم واللبن والرز ونحوه ، وتراه في أيام الضائقة يغالب أرملة ومسكينا وضعيفا ، ليحتجن أكثر مما لا يحتاجه من سلع في ستة أشهر .
هناك في معجمنا القيمي قيمة نسميها المروءة ، وكثير منا تربى على أن الإدامة مروة . كان أهلنا يشددون علينا إذا كنا ضيوفا عند أحد ، فلا تنظروا إلى طعام ، ولا تحدقوا في آكل ، وإذا رأيتم طعاما لا تعرفونه فلا تسألوا ما هذا ؟ وإذا جلستم إلى مائدة فصغروا اللقمة ، وأقلوا المكث ، وكلوا مما يليكم ، وكلوا من طرف الإناء أو غرفوا منه . وما تعلمته تعلمه كل أبناء جيل أنتمي إليه فيما أقدر.
في معجمنا القيمي قيمة نسميها الإيثار ، وحفظونا منذ كنا صغارا عن " حذيفة العدوي" حديث شربة الماء التي دارت على ثلاثة جرحى ، لم يشربها أحد منهم ، كلهم كان يؤثر بها أخاه ..!!
يقول المدبر لأمر الناس في هذه الظروف : لكل أسرة ربطة خبز ، فينقض القبضاي على الخبز هو وخمسة من أبنائه بخمس ربطات ، ولا يدرون أن ضعيفا وأرملة ويتيما قد يعودون إلى بيت خاليي الوفاض . هؤلاء الذين يتحلقون على مائدة إدامها خبزها .
كثيرا ما نتشكى من أخلاقنا السياسية ، من مستوى وعينا العلمي والثقافي ، وننسى أنه في مثل هذه الأزمات تتكشف حقيقة أبعاد صلابة أو هشاشة المجتمعات ..
صعلوك جاهلي - فقير ومنبوذ - كان يقول :
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن .. بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
حنانيكم أيها الناس فإن فيروس كورونا هو الذي يتهدد البشرية ... وليس الجوع . أتذكرون قول أحمد شوقي
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم .. فأقم عليهم مأتما وعويلا
أو قول أبي العلاء المعري
فلا هطلت عليّ ولا بأرضي .. سحائب ليس تنتظم البلادا
نحن من أمة كان رجالها يقتسمون التمرة ..
وسنظل نعلم هذا ونفخر به ..
وسوم: العدد 869