هل تتحدى عاداتنا كورونا؟
ربما تكون هذه أول مرة تكتشف فيها المجتمعات العربية أن عاداتها قد تكون قاتلة. ليست العادات وحسب، وإنما هي أعراف وتقاليد راسخة قد تؤدي إلى مَهلكة جماعية. مَن ذا يُقنع أقواما أدمنوا التجمهر لأدنى سبب أن يَلزموا بيوتهم؟ تقع حادثة سير فإذا بالطريق قد غصّ بالمتفرجين، حتى إذا بلغت سيارة الإسعاف المكانَ لم تجد بُدّا من دعس بعضهم لتنقذ المدعوس! ومن سيُقنع نساءً ألِفْن المباركة للعروس بالأحضان أن يُشرن باليد عن بُعد أو بمصافحة باردة؟ لا ريب أن تحية هتلر تلك لا تُقنع نساء العرب، إذ لا مناص من العناق من الأعماق، ولا مفر من الشد والجذب. وقد يكون الرجال أقدرَ على مقاومة الانجذاب، وأصبرَ على ألا تمسّ الوجوهُ الوجوه، لكن أنّى لهم الصبر على ترك المصافحة؟! أمّا أولئك الذين اعتادوا تحية الأنوف فلْيكن الله في عونهم! أيّ ترحاب هذا لا يُقبِّل فيه الأنفُ أخاه؟ وأيّ كرمِ الضيافة هذا لا تُحشر فيه الأجساد حشرا ثم يقال إنما السعة سعة القلب؟ كيف يلقى الزميل زميله بُعيد عطلة الأسبوع ثم يكتفي "بالسلام عليكم"؟ فلا مصافحة ولا قُبَل؟! كيف نهنّئ الولد وقد حاز قصب السبق دون أن نعصره عصرا؟! أليست أمارة المسرّة أن نسمع أزيز أضلعه؟
كانت الدعوة إلى تجنب التجمعات فامتلأت الأسواق بغتة، هرع الناس إلى التزود والادخار زرافات ووحدانا، فتزاحموا وتلاحموا، واصطفوا في المتاجر كأنهم بنيان مرصوص. لا قفازات تستر الأيدي ولا كمامات على الأفواه، وكأنما وعدَهم الفيروس ألا يَقرب الأسواق حتى يقضوا مآربهم! هي أيامُ استعداد للأسوأ معدودة، ولا مناص من العُدة والعتاد. هكذا يقولون، فليتهم يَصدقون! تعطّلت المدارس والجامعات فغصّت المقاهي بالمرتادين! هنالك انجذاب للتجمهر لا يقاوَم، فإذا فرَغ مكان امتلأ آخر، وإذا فرّ القوم من ساحة التقوا في ساحة أخرى! وكأن الطبيعة تخشى الفراغ فعلا! وما يزال أناس يقصدون المنتزهات والساحات العامة وكأن شيئا لم يكن، ولن يكون.
لا جَرم ستصيبنا الكآبة وليس الأمر غيرَ عادات وأعراف! وشيء من التهور واللامعقول! فما عسى يكون شأن العبادات حيث لا تحصى الجماعات؟ قد يَنسخ من بيدهم الحلّ والعقد "قاعدةَ الضرورة" فيغدو الحج مقبرة جماعية! ومن ذا يُقنع قاصدي البيت الحرام ألا يُلقوا بأنفسهم إلى التهلكة؟ سيقولون لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ولن يَذكروا أن الله قدّر سننا وأجرى الأمور بأسباب، وأنه ليس لِمن يتغافل عن سنن الوجود سوى الخيبة والندامة، وأنه من تمام التوكل الأخذ بأسباب السلامة.
لكن، أمَا يبدو غريبا أن يتحدى الوعي الجمعي حقائق العلم؟ تُطلعنا قوانين الاجتماع الإنساني على أن الظواهر الإنسانية تستعصي على الفهم لغياب العلاقات السببية، فإذا ما أصررنا على الفهم فما علينا إلا تأويل الفعل الإنساني. فكيف نؤوّل نكتا تسخر من كورونا؟ وكيف نفهم صورا مركّبة غير عابئة؟ أهو استخفاف بالموت؟ أم تراه تكذيبا لما يَشهده العالم أجمع؟ أم يكون ضحكا كالبكاء؟ لو أن السخرية لم تنْزُ على مقام الحذر لهان الأمر، ولو أنها لم تحلّ مكان الحيطة لقلنا: أنعِمْ بها من سخرية! فمن ذا يشك أن الكوميديا السوداء تُقوّي جهاز المناعة؟! ولكن الخشية أن تكون الكوميديا سخريةَ الأبله، ويكون السلوك سلوكَ الغرّ الغافل. أما الكوميديا السوداء فكانت سلاحَ برنارد شو، وكوليش (Coluche)، وكافكا (kafka)، وديودوني (Dieudonné)، وجاد المالح (Gad Elmaleh)، وبول جوردو (Gordeaux)، وغير هؤلاء كثير... كُتابٌ وفنانون ورسامون وفلاسفة ألْفَوا في السخرية ضالتهم. ولم تكن السخرية عندهم نكوصا يخيِّل لصاحبه أن المشكلة انتهت، أو وهْمًا يُطمئِن الواهمَ أن إغلاق العين كفيل أن يعدم الأشياء.
وبمناسبة السخرية السوداء يحضرني قول جورج كورتلين (G. Courtline): "لا ينبغي أبدا أن يُصفع الأصم، ذلك أنه سيفقد نصف المتعة، أليس يُحس الصفعة لكن لا يسمعها!" وكأن قوله يلخص حال المجتمعات العربية، بل إن أقواما كأنهم الصم البكم الذين لا يعقلون. قد أحسوا أن الأمور ليست على ما يرام، لكن الاستهتار غلب الإحساس، وقد لا يَعقل المستهترون حتى يروا آلاف الجثث في الشوارع رأي العين.
قد يفيدنا التحليل النفسي في تبيّن سلوك السخرية هذا، أفلا يكون تعبيرا لاشعوريا عن العجز عن المواجهة؟ أليس إنهاءُ الصراع النفسي على نحو سلبي دليلَ الإحباط؟ نعم، قد يكون الأمر كذلك لو أن الاستجابة كانت تجاهلا تاما، وكأن كورونا غير كائن، لكن السخرية اعترافٌ بوجوده، غير أنه اعتراف آثرَ التنفيس. ومع ذلك، كان الوعي الجمعي مستهزئا في البدء، ظانّا أن الأمر هزل، حتى باغتته أخبارُ الموت من كل حدب وصوب. وحين أحس أن الأمر جدّ لا هزل فيه، تعطّلت آلية الكبت فكان أن اقتحمت الأفكارُ غير المقبولة دائرةَ الشعور، فلم يكن بدّ من التحرّز والاحتياط على قدر الوعي والإمكانات.
فهل تنسخ ثقافتنا الشعبية مقالة العلماء؟ وهل تهزم عاداتنا الاجتماعية صوابَ الرأي والنباهة؟ أم تُرى تَرجُح كفة العقل والتروّي؟
وسوم: العدد 870