روحٌ تطيرُ وطائرٌ يشدو
كان من فضل الله عليَّ أن أكرمني بزيارة لي مع والديَّ الكريمين لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم ، تلك المدينة التي تحوَّلت بمجرَّد قدومه لها ،وهجرته إليها إلى جنَّة الدُّنيا والآخرة، وأضحت بعرفه وطيبه بمجرَّد أن وطئَ ترابها طيبة الطيبة أجل، وأضحى مسمَّاها بمجرد دخوله إليها المدينة المنوَّرة مما أنارها به من نوره وهديه، ،وخُلُقه وجماله، وأسوته وسُنَّته ، فقد بزغ شمس الإسلام العظيم فيها ، وسطعت إشعاعاتُ الدِّين الحنيف دينُ التَّوحيد الخالص في رحابها ،لتُضحي هذه المدينة العظيمة عاصمة الإسلام والمسلمين ، وتكون قاعدة الفتوحات الخالدة ،وتُصبح معالمها مهوى قلوب المؤمنين الصَّادقين إلى يوم الدين ،لأقول في قصيدةٍ لي عنها أسميتها أشواق إلى طيبة:
صلى عليك الله ياسيدي يارسول الله ،يا من بُعثتَ رحمةً للعالمين ،ولازِلتُ أذكُرُ موقِفاً يُكتَبُ بماء الذَّهب لسيِّدي الوالد الأستاذ صلاح الدين العكاري الأديب والشَّاعر والصَّحفيُّ المخضرم في الخمسينيات من القرن الماضي رحمه الله عندما أتيتُ معه وأمي رحمهما الله إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ،وقدمت في ظهيرة أحد الأيام المباركة مع سيدي الوالد إلى المسجد النَّبويِّ الشَّريف قبل أكثر من خمسٍ وثلاثين سنةً من الزَّمان ،أجل أتينا المسجدَ من الجهة الشَّمالية من جهة الباب المجيدي وأذكر حينئذٍ الصَّرَّافة متتابعين على الميمنة والميسرة قبل وصولنا للباب المجيدي وهو الباب الشِّمالي المقابل للروضة الشريفة حيث كان الصَّرَّافةُ يضعون مئات الآلاف من الريالات والعملات الأخرى المختلفة على طاولاتٍ بسيطة متقاربة ،كلٌ عليها صَرَّافُها ليجلس كلٌ منهم على كرسيٍ بسيط منهمكاً بعمله ،أجل هكذا كان الصَّرَّافةُ والصِّرافة مقابل الباب المجيدي !!...ولاغرابة في ذلك فالأمن والأمان ،والسلامة والإسلام ، والطمأنينة والأمانة بجانب الحرم النبويِّ الشَّريف أجل....لندخل بعدها إلى المسجد النبوي من الباب المجيدي وقبالتنا من بعيد الروضة النبوية الشريفة وبمجرد دخولنا للمسجد كانت المفاجأة !!!!!إذ برقت عينا سيد ي الوالد.... وتألَّق وجههُ ومحيَّاه حيث رأينا الشيخ العلَّامة الدكتور محمد متولي شعراوي رحمه الله جالساَ عند مدخل الباب وعلى اليمين منه ببضعة أمتار ليراه كلُّ داخلٍ إلى المسجد من هذا الباب، والجميع يلقي عليه السلام ونحن منهم، وكنت من محبِّي الشيخ الشَّعراوي ومتابعيه في الرَّائي مُذ كنت في الشَّام قبل أكثر من أربعة عقود، ومازلت حتى الآن من طلابه ومريديه ومحبيه رحمه الله جمعنا به ووالدي والصَّالحين وقارئ مقالي هذا والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلَّم في جنات عدن اللهم آمين.
المهم بعد أن سلمنا عليه أمسكني والدي من معصمي !!... وأخذني إلى الجهة اليسرى المقابلة لجلوس الشيخ.... ليفاجئني بقوله؟!أتعلم ياولدي ماذا يقولُ لنا الشيخ في جِلسته وهيئته هذه متربِّعاً على الأرض بالجهة اليمنى المجاورة للباب المجيدي !؟
فأثارني السؤال !!؟؟وأثاردهشتي!!!!! ليتابع سيدي الوالد حديثه رحمه الله موضِّحاً:أنَّ جلوس الشيخ على هذه الهيئة ، وكان حينها في قِمَّة ذيوعِ صيته ، وأوجِ عُلُوِّ ذِكره في المحطَّات التلفزيونية ليقول لكلِّ من يراهُ:
أنا لاأصلح أن أكون أكثر من بوابٍ في حضرة مقام سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلَّم
أجل هذه رسالته التي أرادَ قولها بحاله وجلسته وهيئته ليُوحي كأنَّه لاشيء أمام هذا المقام العظيم لسيدي رسول صلى الله عليه وسلم ، سيد الأولين والآخرين، وسيد البشر والخلق أجمعين ،والنَّبيُّ الأميُّ المبعوث رحمةً للعالمين، وخاتم الرُّسلِ الكرام إلى يوم الدِّين، فماأجلَّها من رسالة،وماأبلغهُ من درس.
ثم اتجهنا بعدها وكلنا يحمل الإكبار والتقدير لهذا الشيخ الجليل الذي يعطي دروساَ وإضاءات بهيئته وجلسته ،بتواضعه وأخلاقه رحمه الله وأحسن مثواه وتقبَّله في علِّيِّين ،لنمضي بعدها إلى الروضة الشَّريفة وحمام السلام يتبارى بتسبيحاته وصُعُوده ،وهديله وهبوطه لباحات المسجد النبوي الشريف، ملتقطاً طعامه الذي يُقدَّم له هنا وهناك راسماً ظلالاً من الطُّمأنينة والسَّلام والمحبَّة والعشق لهذا المكان ، لنصل بعدها إلى الرَّوضة الشريفة حيث أكرمنا المولى بالصَّلاة فيها ووالدي وهي كما قال الحبيب المصظفى صلى الله عليه وسلَّم (مابين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة) أجل هي قطعةٌ من الجنَّة ،والحديث صحيحٌ رواه الشيخان ،
وفي رواية (مابين قبري ومنبري) وهذا رواهُ البزَّار وأحمد ومالك في كتاب السُّنن
ثم اتجهنا بعدها للسَّلام عل سيد الخلق محمد عليه الصَّلاة والسَّلام ، وقبل الوصول لقبره الشَّريف صادفتنا أسطوانةٌ على اليسار منَّا وهي أحد الأعمدة الرُّخامية التي قبل قبره الشَّريف ، عليها مخطوطاتٌ جميلةٌ رائعة ، فتأملناها مليَّاً حتَّى نفكَّ حروفَهاوخطوطها محاولين قراءتها وتمكنَّا من ذلك بفضل الله وإذا هما بيتان من الشِّعر كأنهما يسبحان في فضاءاتٍ الجمال والبهاء ، ويمخران في عوالم الإيمان والنَّقاء بمعانٍ ومبانٍ عظيمة وفيهما :
فطابَ من طيبهنَّ القاعُ والأَكَمُ
فيه العَفَافُ وفيه الجُودُ والكَرَمُ
وهذه الأبيات من قصيدة في مدح الحبيب المصطفى للبوصيري رحمه الله ، لنتابع بعدها ونصل لمقابل قبره الشَّريف والنَّافذة الخضراء المنيرة لنُسَلِّمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، ثمَّ نُسَلِّمَ على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه ، ثم نُسلِّمَ على خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،وماأروعها وأجملها وأسماها وأكرمها من زيارةٍ ورحلةٍ وتألُّقاتٍ وذكرى هناك في الحرم النبوي الشريف،ومدينة سيِّدي رسول الله صلى الله عليه وسلَّم
تلك الرحلة مع سيدي الوالد ومافيها من قصصٍ، وأحداثٍ ،ومعالم، وذكرياتٍ محفورةٍ في ذاكرتي، ومازلت أذكرها وأتذكَّرُها وكأنَّها شاخصةٌ أمامي بدقائقها وتفاصيلها، رحم الله سيدي الوالد ،وأحسن إليه، وتقبَّله في علِّيين.
لأتذكَّر بها مطلع قصيدةٍ لي متحدِّثاً فيها عن أشواقي إلى طيبة:
أجل والله روحٌ بي تطير ُشوقاً وحُبَّاً ولهفةُ ووجداً لتلك المعالم والرِّحاب الشريفة ،وطائرٌ يخفًقُ في فؤادي و يشدو حنيناً وسلاماً وارتقاءً وعروجاً بمشاعري لتلك الذكريات في تلك البقاع الشريفة صلى الله عليك ياسيدي يارسول الله وجعلنا من محبيك وأتباعك ومن جنودك وأنصارك والحمد لله رب العالمين
وسوم: العدد 870