بين معارضة المشروع ومعارضة النقمة، أبلغ درس تعلمته من تجربة ستة عقود معارضة
هذا حصادي الشخصي من تجربة عمرها ستة عقود عشتها معارضا ، ومعايشا لطيف واسع من المعارضين .
ويخطئ من يظن أن المعارضة تكون ضد الدولة التي ينتمي إليها الإنسان بالمعنى الاصطلاحي للدولة . ليس هناك مواطن حر شريف في العالم يعارض دولته أو يعارض وطنه. إن معارضة الحكومة أو تمثلاتها السلطوية بكل رؤوسها أو أذرعها لا يعني معارضة الدولة ، ولا معارضة الوطن ، ولا معارضة المجتمع بكل من فيه ، وهذا ما يحاول أن يسوقه الطغاة والمستبدون ، ويعينهم عليه بعض الذين لا يعلمون .
المعارضة السياسية تكون في الدولة الديمقراطية معارضة مشروعة من جهة. ومعارضة تنافسية مع الحكومة القائمة من جهة أخرى، وكثيرا ما تكتسب هذه المعارضة دورا تكميليا أو مسددا أو معينا لدور الحكومات ولاسيما حين تشتد على أي دولة حزمة التحديات.
وفي الكيانات غير الديمقراطية، غالبا ما تكون قوى المعارضة غير مشروعة، وهي مضيق عليها أو مقموعة ومكبوتة ممنوعة ، حتى من الاطلاع على المجريات الأكثر عموما في نطاق " وطن " ، ومن باب أولى أن تكون ممنوعة من التعبير عن الرأي . أو المشاركة في أي نشاط عام.
وفي مثل هذه الحالات لا يمكن وصف المعارضة بأنها معارضة للحكومة ، بما يشير إليه لفظ الحكومة من مؤسسات وآليات تنفيذية ، بل تكون المعارضة في هذه الحالة موجهة ضد السلطة ، وأذرعها الخشنة ، ويصبح الحديث عن المشروع والقرار والإيجابية والسلبية ، خارج دائرة الحسابات .
المعارضة في الأطر الديموقراطية تقوم على احتفاظ قوى المعارضة لنفسها برؤى بديلة ، أو بمشروع سياسات مغايرة ، على المستوى الكلي أو الجزئي . وأنها جاهز لطرح هذا المشروع على الناس بعد إقناعهم به لتفوز في انتخابات . ودائما يجب أن نعلم أنه لا ينفك المشروع عمليا عن النخبة من الناس التي تحمله وتتقدم به.
وغالبا ما تفتقد المعارضات في الظروف الأخرى ، ظروف الأنظمة السلطوية هذا البعد الجدير بالاعتبار . وتتحول قوى المعارضة إلى مجموعات من الأفراد تجمعهم النقمة على الوضع القائم، ربما على خلفية من الخلفيات الأكثر إغراقا في العموم . فهؤلاء من أهل اليمين ، وهؤلاء من أهل الشمال ؛ على تباعد ما قد يكون بين الأفراد من هؤلاء وهؤلاء . وحتى إذا أخذنا حكاية العميان والفيل مثلا ، فإنك ستجد الاختلاف على الحقائق التفصيلية لما يدعو إليه هؤلاء أكثر ..وغالبا ما يجتمع هؤلاء الناس على تصورات طوباوية غائمة رجراجة بينما القاسم الأعظم الجامع بينهم ؛ هو النقمة والرفض والشعور بالظلم والقهر وأنهم يحتاجون إلى مخرج ، وربما كل فرد فيهم يتصوره كما يريد ..
وهكذا نجد الناقمين – كما كان جند الإمام علي والذي كان يكثر البرم بهم والتشكي منهم – يتصدعون عند كل مفترق طريق. فهم قوم تجمعهم النقمة، ولا تجمعهم الرؤية. بل ويظل موقف بعضهم محكوم بمعادلة " فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " ويصبح الناس في دوامة القبول والرفض ولا يدرون ما يأخذون وما يدعون .
سيكون في مجتمع من المجتمعات معارضة سياسية إيجابية
عندما يتضح في أذهانهم حقائق الفروق بين معارضة " الدولة " ومعارضة " الحكومة " ومعارضة " السلطة " . والخلط بين هذا وذاك وذلك له تأثير مدمر على الدولة والمجتمع والناقمين أنفسهم ..
وعندما يكون لدى قوى المعارضة على تعدد خلفياتها مشروعات برامجية، واضحة ومحددة، وبعيدة عن العمومات الضبابية يمكن أن يكون سيرها أكثر جدية وقصدا ، ومقارابتها إلى ما تتوجه له أيسر وأجدى ..وإلا فما أكثر ما تتربص بهذه المعارضات الانشقاقات المشخصنة عند كل مفترق طويل . وكم سمعنا ورأينا من انشقاقات تتلبس بعناوين مموهة ليس فيها من الحق من شيء .
وإذا لم يجتمع الناس على مشروع واضح مسبقا ، سيجدون أنفسهم في مركب يقوده أكثر من ربان ، بأكثر من " سكان "
ولن نختم قبل أن نبين أن المعارضة لا تكون سياسية فقط كما يتبادر إلى الأذهان ، ولا تكون فقط ضد الحكومة أو السلطة ، فكثيرا ما تكون المعارضة فكرية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية ؛ أوليس التصدي للخمول العقلي ، والتردي الفكري ، وللعادات البالية ، والأفكار السلبية المعجونة بماء الجهل وطينة التخلف نوعا من أنواع المعارضة التي عمل عليها المصلحون من قديم الزمان ؟!
وكان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يوم دخل مكة عام الفتح ، بعد كل التكذيب والتعذيب والتهجير أنه لم يهدر دم إلا بضعة نفر من المشركين ، كانوا ممن غدر وأثم ، قال اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بثياب الكعبة . ثم عفا عن بعضهم ..
لنتميز الفرق بين صاحب المشروع وصاحب النقمة . الذي يسد أفق رؤيته ري غليل نقمته .
وكان ممن أدركه العفو الخاص منهم سيدنا عكرمة الذي كان صاحب الدور الكبير في صنع نصر اليرموك ..
أيها الناس أنظروا إلى غدكم من يفاع نظر منه سيدنا رسول الله صلى الله على رسوله الأمين ..
وسوم: العدد 870