فجرُ إسراء جعابيص ينبلجُ وصبحُها يقتربُ
لو لم يكن من أملٍ في صفقة تبادل الأسرى القادمة، بين المقاومة الفلسطينية وسلطات الاحتلال الإسرائيلي، سوى الإفراج عن الأسيرة المناضلة الجريحة المصابة الصابرة المحتسبة إسراء جعابيص لأكفتنا، وكنا بها سعداء وعنها راضين، وإلى إتمامها مؤيدين، وإلى وجوب عقدها داعين، فالإفراج عن إسراء جعابيص حلمٌ وأملٌ، ورجاءٌ ودعاءٌ، وهدفٌ وغايةٌ، والإفراجُ عنها نصرٌ، وحريتُها عيدٌ، وعودتُها إلى بيتها فتحٌ، واجتماعُها بعائلتها وأولادها عرسٌ، فقد والله أدمت قلوبَنا معانتُها، وآلمت نفوسَنَا جراحُها، وعذبت أرواحَنا حروقُها، وفَتَّتْ أكبادَنا نظراتُ عيونها، والجروحُ البادية في وجهها، وأشعرتنا بالحياء والخجل يداها المحروقتان، وأصابعُها التي تفتت عظامها وذاب لحمها، والتصقت ببعضها والتحمت.
لكن فرحة إسراء جعابيص لن تكتمل إلا بخروج أخواتها معها، وتمام حرية الأسيرات اللاتي يشاركنها السجن والمعتقل، والزنزانة والعزل، والقيد والأسر، فقد تعاهدت معهن على الحرية، وأقسمت وإياهن على اللقاء خارج أسوار المعتقل وبوابات السجن، والتزمت تجاههن بالصلاة معاً في المسجد الأقصى، والرباط يداً بيدٍ في رحابه وباحاته، واتفقن على اللقاء والزيارة، وعلى الاجتماع والمواصلة، وسيلبسن الأثواب الفلسطينية الزاهية، وسيحملن معاً علم بلادهن، وسيعبرن على الحواجز الإسرائيلية ورؤوسهن مرفوعة، وكرامتهن موفورة، وسيجبرن العدو على فتح الأبواب لهن، وإزالة الحواجز من طريقهن، فهن جميعاً على ثقةٍ بالفرج، وعلى يقينٍ بالنصر، وعلى موعدٍ مع ساعة الحرية، فقد وعدتهم المقاومة، وسبق لها أن وعدت وأوفت بوعودها ونفذت عهودها.
لكن المقاومة التي أصرت على طرق أبواب السجون بكل يدٍ مضرجةٍ بالدماء لتفتحها، لن تقبل فقط بحرية إسراء وأخواتها، رغم أنها حرية ٌكبيرة، وكسبٌ عظيم، وبيعٌ رابح، وإنجازٌ هائلٌ، بل ستصر على الكثير لتحققه، وستتمسك بالقديم الذي أعلنت عنه، وستضيف إليها الجديد الذي راكمته، والعدو يعلم أن المقاومة قادرة، وهي بالفعل صادقة وواثقة، وأنه لن يقوَ على منازلتها، ولن يستطيع كسر عنادها وثني إرادتها، فهي قد قالت أنها تريد بين يدي الصفقة أن ترى الأخوات الأسيرات حرائر عزيزاتٍ، وأن يستقبل شعبنا في الوطن شيوخ المعتقلين، وجنرالات الصبر وأبطال الصمود، وأن يحتضن الأسرى الأشبال والمعتقلين الأطفال، وأن يفرج عن الأسرى المرضى والمصابين، وأن يسبقهم جميعاً أحرارُ صفقة وفاء الأحرار، الذين غدر بهم العدو وعاد وأسرهم، ونكث اتفاقه مع المقاومة واعتقلهم، ونكص على عقبيه واحتجزهم رهائن من جديدٍ عنده.
أما متن الصفقة وقلبها، وأساسها الذي ستبني عليه موافقتها، وستحدد بموجبه موقفها، فهي لم تعلن عنه بعد، ولم تكشف للعدو عن مضمونه، ولكنه بالتأكيد يعرف أن الثمن الذي تتطلع إليه المقاومة كبير، والبديل الذي يجب أن يقابلها به غير قليلٍ، وتاريخ صفقات التبادل السابقة يشهد على عناد المقاومة وإصرار قيادتها، فلا يَظُنَّنَ العدو أنه سيفوز في هذه الصفقة، أو أنه سيغبن المقاومة وسيخدعها، وسيأخذ منها في زمن الكورونا ما عجز عن أخذه منها في ظل الحروب والمعارك، أو من خلال الاستخبارات والمتابعة ومحاولات الوصول إلى معلوماتٍ عن جنوده ومستوطنيه ورفاتهم وبقايا أجسادهم، فالمقاومة لن تهدأ ولن تستكين حتى تستعيد جميع رجالها، وتحرر كل أبطالها، وتهدم سجون العدو وتدمر زنازينه.
المقاومة الفلسطينية التي تحفظ العهد وتفي بالوعد، وتحرص على أسراها وتصر على حريتهم، وتواصل العمل من أجلهم، وتُذَّكرَ بهم ولا تنساهم في سجونها، أحسنت اقتناص الفرصة واختيار اللحظة المناسبة لطرح مبادرتها، وعرض حسن نواياها، فهي تخاف على الأسرى والمعتقلين في سجون العدو، وتخشى عليهم في ظل جائحة كورونا، أن يطالهم الفيروس، أو تسرب إليهم سلطات السجون العدوى لإصابتهم، وهم في سجونهم الضيقة، وفي معتقلاتهم البعيدة القاسية، يتعرضون لأشد أنواع التعذيب والتنكيل، والتضييق والإساءة، والحرمان وسوء المعاملة، مما قد يجعل إصابتهم بفيروس كورونا سهلاً، وهو المرض الذي يفتك بضحاياه بسرعة، ويقضي على المرضى والضعاف منهم بسهولة، ولهذا وجب التحرك السريع، وطرح المبادرة بقوة لإنقاذ الأسرى جميعاً، وعلى الأخص منهم إلى جانب المرأة والطفل، الشيوخ الكبار والأسرى المرضى، الذين تسهل إصابتهم وتقل مناعتهم، بسبب الأمراض المزمنة، ونقص الدواء وقلة العلاج وانعدام الرعاية والمتابعة.
لاحت تباشير الفجر، واقترب الفرج، وتسلل النور من بين عتمة الليل وظلم السجان، وسيتحقق الوعد الحق وسيفي الرجال بالعهد، وستعود عما قريب إسراء جعابيص إلى بيتها وعائلتها، وستفرح بحريتها وشعبها، وستجري العمليات الجراحية التي حرمها منها العدو، وستشفى من آثار الحروق وبقايا الظلم، وستبرأ من جراحها وستنتقم من جلادها، ولن تتألم من جديدٍ ولن تشكو من سخونةٍ أو وجعٍ، وستعود بإذن كما كانت قبل أسرها بهية الطلعة سنية الهيئة، منيرة الوجه باسمة المحيا، حيوية مجدة قادرة، تخدم نفسها وتقوم على تربية أولادها، وستجدُ من شعبها كل الوفاء، ومن أهلها كل الحب، الذين ينتظرونها وأخواتها بكل الشوق، ويتهيأون لاستقبالها واخوانها بكل الفرح، فحتى هذا اليوم الموعود والعرس المشهود، ستبقى مشاعلنا متقدة، وهممنا عالية، وبيارقنا مرفوعة، وصوتنا مجلل وكلمتنا مدوية، فنحن جيل النصر وأبناء المقاومة.
وسوم: العدد 872