إن الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا هو سبحانه من يكشف السوء إذا قنطوا
في غمرة الأحاديث عن الجائحة الحالّة بالبشر، انقسم الناس بين متفائلين بقرب انكشافها، وهؤلاء لم تنقطع صلتهم بكتاب الله عز وجل لأنهم منه ينهلون ، وفيه يثقون ، وعلى منزله على رسوله صلى الله عليه وسلم يتوكلون ، وأولئك هم المهتدون ، و بين متشائمين من طول مكثها إما لانقطاع صلتهم بما يتصل به المتفائلون أو لغفلتهم عنه ،وقد كانت لهم به صلة من قبل .
ولقد سبق أن ذكرنا في مقال سابق أن الخلاص مما سببته هذه الجائحة من فزع وهلع إنما يكون بالعودة إلى أصدق الحديث ،وهو كتاب الله عز وجل وإلى خير الهدي، وهو هدي رسوله صلى الله عليه وسلم ، ففيهما الخبر اليقين الذي يبعث الطمأنينة في النفوس وقد أفزعتها الجائحة .
أما أصدق الحديث ففيه قول الله تعالى :
(( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وهو الولي الحميد ))
ومن المعلوم أن الغيث ،وهو المطر الذي يأتي بعد الجفاف لإغاثة الناس من أعظم نعم الله عز وجل على الناس، باعتباره أصل دوام واستمرار الحياة، فبه يكون غذاءهم وغذاء أنعامهم التي يتغذون من ألبانها ولحومها أيضا، ويلبسون من أوبارها وأصوافها وجلودها . وغالبا ما يترقب الناس نزول المطر في أوقات معلومة ، فإذا فات أوان نزوله ، حل بهم اليأس لأنهم يتعلقون بالأسباب ويغفلون عن رب الأسباب سبحانه وتعالى . ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسبة إنزال الغيث لغير الله تعالى حيث خطب أصحابه ذات يوم على إثر سماء كانت من الليل فقال لهم :
" أتدرون ماذا قال ربكم ؟ قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي ، كافر بالكوكب ، أما من قال مطرنا بنوء كذا ونوء كذا ، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب "
وفي قنوط الناس من نزول الغيث سوء أدب مع خالقهم سبحانه وتعالى . وما قدر الله حق قدره من يقنط من نزول الغيث حين لا يأتي في أوانه ، وقد قدر سبحانه وتعالى في الأرض أقواتها يوم خلقها ، وهو ينزل بقدر لمنع الناس من البغي في الأرض كما جاء في قوله تعالى مباشرة قبل الآية السابقة وهو :
(( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير )) .
ومعلوم أن الغيث قد يتأخر عن أوانه لحكمة يريدها الله عز وجل خلال العام الواحد ، وقد يتأخر أكثر من عام كما حصل ذلك زمن نبي الله يوسف عليه السلام حيث تأخر مدة سبع سنين لكن الله تعالى وبعدما قنط الناس يومئذ، وقد دل على قنوطهم قول إخوته يوسف الذي حكاه الله تعالى وهو :
(( قالوا يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين )) .
ولم يمنع وجود نبي الله يوسف بين ظهرانيهم يومئذ من أن يمضي فيهم قضاء الله عز وجل ، وقد أوحى إلى نبيه الكريم بطريقة تدبير أزمة احتباس القطر ، وفي ذلك رحمته سبحانه وتعالى رافقت ما نزل بالناس من شدة .
ولقد قال أهل العلم من المفسرين أن اختيار زمن المضارع لفعل إنزال الغيث يدل على تكراره وتجديده ، وهو وعد ناجز من الله عز وجل في كل زمان ، وذلك دأبه سبحانه على الدوام ، ودأب الناس دائما هو القنوط إذا تأخر المطر عن الموعد الذي ألفوه .
ولقد أصاب قحط كقحط زمن يوسف عليه السلام كفار قريش بعدما دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ودام سبع سنين حتى أنهم أكلوا الجيف والعظام ، وأصابهم اليأس ،وكان ذلك عذابا سلطه عليهم الله عز وجل ثم كشفه بعد ذلك استجابة لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم وقد لجئوا إليه مستغيثين به ،وما تخلفت سنة الله عز وجل في إنزال المطر عليهم مع إخباره بأنهم سيعودون إلى ما كانوا عليه من طغيان في قوله تعالى : (( إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون )) .
ومعلوم أن القحط لا يقل خطورة على الوباء إذا طال ،وجاع الناس ، ولقد أهلكت المجاعات خلقا كثيرا عبر التاريخ ،كما أهلكت الأوبئة الكثير منهم . وما يصيب الناس من قنوط بسبب طول مدة انحباس القطر ، يصيبهم أيضا بسبب تفشي الوباء وطول مدته ، إلا أن الله عز وجل كما ينجز وعده بإنزال الغيث بعدما يقنطون ،فهو ينجز وعده أيضا بكشف السوء بعدما يقنطون مصداقا لقوله تعالى :
(( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء )) ، وقد جاء الفعلان يجيب ، ويكشف في المضارع للدلالة على التكرار والتجديد ، وهما وعدان ناجزان من الله عز وجل لا يتخلفان رحمة منه سبحانه وتعالى بالخلق . واضطرار الخلق علامة القنوط إذ لا يكون الدعاء والضراعة إلا من مضطر بسبب جوع أو وباء أو سوء مهما كان .
وفي الأخير نقول : اللهم إنا نثق في وعدك الناجز ، ونطمع فيه ، وثقتا لا يخالطها شك أنه واقع لا محالة ، فكما تنزل الغيث سبحانك بعد قنوط عبادك ، فعجل بكشف هذا السوء عنا ودعوتنا دعوة مضطرين ، ونحن على يقين بما في كتابك الكريم من أنك ستجيبنا لا محالة ، وستكشف ما حل بنا من سوء . فرحماك يا رب العالمين ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 872