الدكتور الترابي بعد المفاصلة
والترابي الذي احتمل أفدح أثقال الحكم، وتجرع أمرّ كؤوسه، تخفف من أمرين كانا يثقلان عاتقه بعد أن كاد له تلاميذه وتآمروا عليه، العبء الأول هو الحرب الطاحنة التي لا أسو لكلمها، ولا رأب لصدعها، أما الثاني صراعه مع شخصيات متسلقة تبتغي الظهور وتريد الحكم، وشهوات ضارمة تتنشد المال وترغب النفوذ، وقد أقامت هذه الفئات صراعها المحموم مع أستاذهم الذي كانوا يظهرون له الخضوع والاستكانة، على معان سقيمة، وقوالب مشوشة، والشيخ بعد ذلك حافل الخاطر، مشغول التفكير، في الحركة الإسلامية التي أمست بعد هذا الخلاف الدامي لا تجد ما يدفع الغارة، ويمنع الحوزة، فشكا من لم يألف الشكاة، وسخط من لا يعرف السخط.
كان الشيخ يشقى عقله بترديد ما لا يفهمه، ويوهي نفسه بتجرع ما لا يهضمه، فإن السلطة في اعتباره ليست غاية، ولا ينبغي أن يتخذها غاية، كان الدكتور يجهل أنه لا يضيق بها أحد أو لا يظهر الضيق بها أحد سواه ومن بات في عصبته وهو صلد لا يتزحزح، لا تخدعه الأماني، أو تضلله الآمال، ذلك النفر الذي يؤمن بأن الشر كل الشر، والدنس كل الدنس، في الاقتران بها، والغوص في أوحالها، إذن آثر الشيخ رضا الله على رضا طلابه، وسعة الوطن على ضيق حزبه، وسار الشيخ على ما سار عليه قبل أن يدب الخلاف، وتتسع الهوة، ينتقد حرص أرباب الحكم والتشريع على اقتناء مال الدولة وإنفاقه في غير موضعه، ويستنكر تغول الرئيس على قرارات المجلس الوطني وتعيينه للولاة بدلاً من انتخابهم، بذهن لا يكل، ولسان لا يفتر، حتى ضاق خصوم الترابي بهذا البون الذي حدث بينهم وبين شيخهم، ثم أظهروا امتعاضهم من هذا البون، ثم ضاقوا ذرعاً بهذا البون والشيخ معاً، ثم ثاروا عليه وسجنوه.
لقد ظهرت قوة الرجل التي انتهت به إلى البطولة، وظهر ضعف خصومه الذي انتهى بهم إلى الجرم والخزاية، وتمزقت شعاب الحركة الإسلامية من تناقض الآراء، وتعارض الأهواء، ولعل التحليل الدقيق، والتعليل الصائب، أن الشيخ سعى أن يستأنف حياة جديدة لا يصحبها ضنك، ولا تلحقها جريرة، ولكن عقله الذي لا يرى حوله إلا شراً، يدفعه ألا يطمئن أو يستقر إلا إذا أزال الشر ، ومحى آثاره، والحق أن حرص الشيخ على إصلاح مجتنى تعديه، وخاتمة تدبيره، وطموحه إلى العدل والإنصاف، خرج به كثيراً عن حدود اللباقة والكياسة السياسية، وأمست فظاظة الدكتور وقسوته، بصر للعين العمياء، وسمع للأذن الصماء كما يقول الدكتور طه حسين في أحدى تعابيره الفينانة، نقمة الشيخ التي تتحدث عنها الصحف فتكثر الحديث، وتروي أنباء خشونته مع طلابه الذين ثنى عنهم جناح رحمته، فتحسن رواية الأنباء، لقد أخرج الشيخ تلامذته من نفسه، وأشخصهم عن قلبه، وغيبهم عن نظره، ولو أراد الباحث تلخيص تلك الفترة واقتضابها، لرمز إليها بالفترة التي شحب فيها لون الشيخ، وسهم وجهه، وأسدف سناؤه، كان الدكتور الترابي في ذلك العهد بحق يرتاب بكل شيء، ويزدري كل شيء، ولم يُكِّون جُمله، أو يحشد فكرة، أو ينسق صورة، إلا اشتد الجدال حولها بين راض وساخط، ثم تستحيل الأجواء بعدها إلى وجوم متصل، وذهول غريب، والأقطاب الذين تمردوا على الشيخ وتوثقت صلاتهم بأسباب الحياة بعد أن أحالوا الشيخ إلى قيود الذل وسجون القهر، ظلوا يتحدثون إلى عُنصُر الحركة الإسلامية في رفق، ويناقشونهم في هدوء، ويعطونهم ما يريدون في سخاء، حتى انفضّ الناس من حول الشيخ، ولم تبقى معه إلاّ تلك الطائفة التي أرست معه دعائم حزبه الجديد "حزب المؤتمر الشعبي" الذي قام بتأسيسه بعد المفاصلة التي وقعت أحداثها يوم الثاني عشر من شهر ديسمبر عام 1999م، الموافق الرابع من رمضان 1440هــ"
وسوم: العدد 873