إذا كان القرآن الكريم لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه فإن الشهر الذي أنزل فيه لا تمل عودته ولا تنقضي فضائله
حديث الجمعة :
القرآن الكريم ورمضان المعظم نعمتان من أعظم وأجل نعم الله عز وجل على عباده المؤمنين ، فمن أجلهم أنزل القرآن ، ومن أجلهم جعل رمضان شهر نزوله لتجتمع لهم نعمتان: نعمة عبادة الصيام ونعمة عبادة القيام بالقرآن .
وأية نعمة تعدل هاتين النعمتين ،وفيهما أعظم جائزة يتطلع إليها المؤمنون كل عام، وهي مغفرة ما تقدم من ذنبهم وهم يحتسبون صيامهم وقيامهم لخالقهم جل في علاه .
ولقد شاءت إرادة المنّان سبحانه وتعالى أن يصادف شهر الصيام هذا العام نعمة ابتلاء عباده المؤمنين بالبلاء محبة منه ،لأنه إذا أحب ابتلى ليضاعف الأجر والثواب على الصبر على البلاء . وهكذا اجتمع لهم أجر الصبر على ابلائه ، وأجر احتساب الصيام والقيام له جل في علاه . فله الحمد والمنة سبحانه وتعالى.
وبهذه المناسبة الحاملة لهذه البشارة العظمى، نود الحديث عن هذه الالتفاتة الإلهية الكريمة للتذكير بما يليق بالضيف الكريم شهر الصيام والقيام من تعظيم وتبجيل لا يقفان عند حد إظهار الفرحة بحلوله بل يتعدى ذلك إلى ترجمة الحفاوة به بما أمر من أرسله ضيفا كريما إلينا سبحانه وتعالى ، والذي اشترط أن تكون الحفاوة به إمساك عن الشهوات بالنهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس لا يفسده رفث ولا صخب ، وقيام بالقرآن من غروب الشمس إلى طلوع الفجر يصاحبه استماع ،وانصات ، وخشوع، وتدبر وتخلّق .
أما الإمساك ، فهو نعمة تخليص الروح ذات الطبيعة النورانية المشرقة التي أوعدها الله عز وجل في الجسد ذي الطبيعة الطينية المظلمة من الانشغال بشهواته من أجل إعدادها للتزود بالمزيد من النورانية كي ترقى إلى درجة التكريم الإلهي.
إنها أيام معدودات ولكن لا عد لما أودع فيها الله عز وجل من نعم ، فخلالها يكتشف الإنسان المؤمن ما أودع سبحانه وتعالى في روحه من نورانية ، ويجدد الصلة بها، وهي التي لا تفارقه طيلة السنة حين يكرع من معينها في صلواته الخمس اليومية ونوافلها ، وفي صلاة الجمعة الأسبوعية التي تدفع عنه ظلمة الجسد الطيني لتصله بالله نور السماوات والأرض سبحانه وتعالى .
فبهذا الاعتقاد الذي يشترط فيه الرسوخ الذي لا يلابسه ما يؤثر في قوته وثباته يجب استقبال شهر الصيام ،واستحضار أنه فرصة ثمينة يجب أن تعتنم لتزود الروح ولتزداد نورانية على النورانية التي أودع فيها خالقها سبحانه وتعالى القائل في محكم التنزيل : (( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور )) .وإن تحصيل هذه النورانية إنما يكون بما أنزل الله عز وجل من نور مصداقا لقوله تعالى : (( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين )) . ولا تدرك هذه النورانية بالإخلاد إلى الطبيعة الطينية لقوله تعالى : (( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه )).
إن الشياطين التي تعبث بالطبيعة الطينية للجسد تصفد إذا حل شهر الصيام لتتحرر الروح النورانية من تأثير شهواته الجسد المظلمة .أيام معدودات بقياس الزمن الطبيعي ،ولكنها خارج هذا الزمن المحدود لا نهاية لما تحصّله خلالها الروح من فيض النورانية .
إن ما يفسد إدراك الروح لهذه النورانية إنما هو الإخلاد إلى شهوات الجسد الطينية حين تتحول أيام شهر رمضان المعدودات إلى انصراف التفكير في شهوتي البطن الفرج ، والأولى قادحة زناد الثانية ، ويصير الهم الهام والشغل الشاغل طيلة النهار هو السعي من أجل أن تزيين موائد الإفطار بما لذ وطاب من طعام وشراب يزيدان الجسد الطين ظلمة على ظلمة تحول دون وهج نورانية الروح. وإن الشياطين المصفدة لتكسر أصفادها حين يصير الهم هو الاشتغال بشهوة الطعام والشراب عن لذة الصيام ، وحلاوة القيام .
ومن كان نهاره تفكير في لذة الصيام ، وهي لذة جعلها الله عز وجل في الجوع والعطش ، فإن ليله يكون عبارة عن تذوق لحلاوة القيام وقد جعل الله عز وجل حلاوته في سهر شيّق مع القرآن ، وأما من كان نهاره تفكير في شهوة الطعام والشراب ، وهو من كيد الشيطان الذي يستغل جوعه وعطشه ليزين له كل أصناف الطعام والشراب بكميات فوق ما تدعو إليه الضرورة ، فإن ليله يكون عبارة عن سهر لهو تافه وعابث مع المسلسلات والمسرحيات وما خفي من الكاميرات والترهات . وهكذا يكون الصائمون صنفان : صنف يرتقي في سلم نوارنية الروح ، وصنف يهوي إلى درك ظلمات شهوات الجسد.
وقد يقول قائل ألا يمكن الجمع بين مطالب الروح والجسد ؟، والجواب يكون : نعم إذا كان قدر الطعام والشراب مما تقتضيه الضرورة دون إسراف وتبذير لأن ما زاد عن الضرورة كان عبارة شهوة جامحة يقدح زنادها في النفس الشيطان عدو الإنسان الذي يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، ويزين له الإسراف والتبذير ويغويه بذلك مستغلا ضعفه في حال جوعه وعطشه ، ويتخذه أخا شقيقا له يحثه على التبذير ويزينه له مصداقا لقول الله تعالى : (( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا)) ، وأي كفر يعدل جرم تبذير نعم الله عز وجل القائل : (( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ))، الإسراف هو ما كان فوق ما تدعو إليه الحاجة والضرورة ؟
إن الله عز وجل تعبّدنا بالإمساك ، وهو حبس النفس عن شهوتي البطن والفرج ، ويترتب عن ذلك أن يقل ما يقوي هاتين الشهوتين من طعام وشراب وكسرهما ،ومن الطبيعي أن يقل بسبب ذلك الإنفاق ليكون شهر الصيام أقل الشهور إنفاقا على النفس، وأكثرها جودا على الغير المحتاج حيث يعود ما يتوفر فيه من طعام وشراب بسبب الإمساك على من لا طعام له ولا شراب من المحاويج .
ومن فضل الله علينا كما سبق ذكره أن الله عز وجل جمع لنا بين نعمة الابتلاء ببلاء جائحة وقد كشفت عما خفي من احتياج المحاويج ، وبين نعمة عبادة الصيام والقيام والإنفاق . فمن فاته الإنفاق في هذا الظرف، فقد فاته خير كثير ، وضيع على نفسه فرصة أغلى من كل نفيس ، وفاته الاقتداء بسيد الأنام صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حتى كأنه الريح المرسلة . فمن ذا الذي لا يحب أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوته في عبادة الانفاق في هذا الشهر العظيم ؟
ومن جوائز رمضان فضلا عن جائزة غفران ما تقدم من ذنب ، جائزة استجابة الدعاء حيث يزول الموانع التي تحول دونه ساعة الإفطار، وهذه أغلى فرصة للدعاء والضراعة إلى الخالق سبحانه وتعالى لرفع بلاء الوباء ، وهو سبحانه لا يتبرم من إلحاح عباده الملحين عليه ، ويذيقهم برد رحمته ، وكرم استجابته .
اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا ما مر من أيام شعبان، وما بقي منه ، وأن تبلغنا رمضان ، وتعيننا على صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك مقتدين فيه بنبيك ورسولك عليه وعلى آله الكرام وصحابه الأخيار الصلاة والسلام .
اللهم لا تجعل أول يوم يحل من رمضان إلا وقد عجلت برفع البلاء ، وبسط أمنك على العباد . اللهم لا تجعلنا أشقياء بدعائك كما لم تشق أصفياءك . اللهم ارحمنا فإنه لا راحم لنا إلا أنت ، وقد استأثرت بواسع الرحمة ،وأنت الرحمان الرحيم ، وجعلتها تسع السماوات والأرض ، فلا تجعلها يا مولانا تضيق عنا آمين.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 874